هذا التغيير لم يشمل فقط النسب العالية من مستويات التعليم بين الشباب والاجيال الجديدة, انما يذهب عميقا في التركيبة العشائرية والمجتمعية, مما يؤثر على الوعي الفردي للمواطن وعلى الوعي العام لدى الفئات الشعبية المختلفة عند تناول القضايا ذات الطابع العام على مستوى الوطن, مثل الامور السياسية والاقتصادية .. الخ.
كل هذا الجدل الساخن - احيانا في التجمعات وبين الافراد وفي الدواوين - الذي يخوض فيه الاردنيون النقاش, ويتبادلون خلاله المعلومات حول شؤون بلادهم ومواقفهم من الحكومات ومن الفساد ومن التنمية الاقتصادية والخصخصة بكل جوانبها, هو اشارة على ان الاردنيين تغيروا, وتغيروا كثيرا خاصة خلال العقدين الاخيرين, اي منذ عام 1989 وحتى اليوم.
اكبر جوانب هذا التغيير هو باتجاه الدولة ومؤسساتها, فهي هدف لكل جدال او مادة للحوار وتبادل الرأي بين الشباب وبين الكهول على حد سواء, والسبب تاريخي وموضوعي, فالاردنيون ارتبطوا منذ بدايات عهد الامارة, ثم المملكة, بالدولة ومؤسساتها. ومنذ اربعة عقود ذهبوا بعيدا عندما تكونت قناعات وطنية بأن الدولة هي حزب الاغلبية, وبأنها تمثل حقوقهم ومؤتمنة على مصالحهم. ولهذا لم يكن »القطاع العام« مجرد نظرية اقتصادية كلاسيكية تجسد دور الدولة في التنمية الاقتصادية وايجاد فرص العمل والوظائف. وانما كان, اي القطاع العام, أيديولوجيا تعبر عن مفاهيم ورؤى سياسية لقطاعات الاغلبية الشعبية, ومن هنا تكونت قناعات عند عشائر وتيارات وفئات من المثقفين والمتعلمين بأن مكانهم الطبيعي هو في الادارة العامة, لانها مركز السلطة والنفوذ.
مرت 4 عقود, كانت كافية زمنيا لحدوث تغييرات اساسية في التركيبة الاجتماعية على اكثر من مستوى, من العشائر الى المناطق والمدن .. وذلك في رأيي لعدة اسباب:
1- الزيادة السكانية التي رافقها تضخم المدينة عمان ومراكز المحافظات وتزايد اعداد خريجي الجامعات من الاجيال الجديدة, وظهور بدايات تشكل طبقة وسطى, بالتوازي, مع طبقات من العمال والمزارعين الذين فقدوا املاكهم, اضافة الى الفقراء ولكل طبقة او فئة من هؤلاء ظروف تَشَكّلِها الخاصة.
2- نجم عن التضخم السكاني, الذي لم يكن نموا طبيعيا في الغالب, تضخم مواز في القطاع العام, ما خلق حالة من »الطبقية« داخل اجهزة الدولة ومؤسساتها, فالكعكة الحكومية لم تعد تُقسم على الجميع بالتساوي من خلال زيادات متساوية في الرواتب والمنافع ولقد اصبحت محصورة في مجموعات ولوبيات (سميت احيانا بالدواوين والوراثة) مما اوجد طبقة من المتنفذين الذين اصبحت لهم حياتهم الخاصة في المدن بعيدا عن مناطقهم وعشائرهم.
3- لقد عمّق هذا الفرز ظهور الخصخصة وسياسات العولمة التي اعتمدت بالاساس سياسة انهاء دور القطاع العام في التنمية الاقتصادية ومسؤوليته في خلق الوظائف وفرص العمل مما زاد معاناة الموظفين والعمال في القطاع العام وشركاته. وانضم اليهم المزارعون الذين فقدوا ارضهم تحت اغراءات نهج »تسليع« الارض الذي هو احد مبادئ الخصخصة, فتحولت الارض الى سلعة مغرية, وبالتالي دُمّر الاقتصاد الزراعي, مما ألحق الضرر الكبير بالفئات الاجتماعية الفلاحية التي تعتمد عليه.
في الخلاصة, اردت من كل هذا التحليل الوصول الى حقيقة ان الاردنيين تغيروا كثيرا, فالقطاعات الشعبية الواسعة في المحافظات وبين اوساط العشائر وداخل المدن لم تعد تعترف بوجود وجهاء ووسطاء بينهم وبين الدولة, فمهمة هؤلاء الوجهاء تكاد تكون قد انتهت. لان الفئات الشعبية خاصة الشباب يرون ان هؤلاء الوجهاء والوسطاء لم يعودوا يمثلونهم. وبعد ممارسات على مدى اربعة عقود اعتقد هؤلاء خلالها انهم المتحدثون المختارون باسم عشائرهم ومناطقهم, فيما هم عمليا يمثلون انفسهم ومصالحهم, ولهذا بدأت الكتل الشعبية في المدن والمحافظات تتولى بنفسها مهمة رفع مطالبها والسعي لتحقيقها. ودخلت بذلك الى الحلبة لتمارس دورها كلاعب سياسي ولم تعد تقبل التهميش.0