لا يزال التضخم هو الشاغل الرئيسي للمستثمرين حول العالم، حيث يترقبون بياناته بصفة دورية، خاصة التي تصدر عن الاقتصاديات الكبرى مثل الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.

وتحمل بيانات أسعار المستهلكين قراءة أولية لآفاق معدل الفائدة، حيث إن إقرار الأخيرة دائماً ما يرتبط بمراقبة وضع الاستهلاك وتطور الأسعار.

ما هو التضخم؟

يُعرف التضخم بأنه معدل التغيير في المستوى العاملأسعار للسلع والخدمات، وبالتالي التغير في القوة الشرائية للعملة، وغالباً ما تسعى البنوك المركزية للحد من التضخم الحاد وتجنب الانكماش أيضاً لمساعدة الاقتصاد في أن يمضي بسلاسة.

وكنتيجة للتضخم فإن القوة الشرائية للعملة تتراجع، وكمثال على ذلك فإنه في حال وصول معدل التضخم إلى مستوى 2% فإن في تلك الحالة سعر علبة الحلوى البالغ سعرها دولاراً واحداً سوف يصبح 1.02 دولار في العام المقبل.

ولأن ارتفاع أسعار السلع والخدمات يجعل شراءها يتكلف أموالاً أكثر، فإن القيمة الحقيقية لتلك الأموال تتراجع، فإذا كان راتب الشخص ثابتاً فإن قيمة الأموال الحقيقية تتغير وفقاً لكميات السلع والخدمات التي يمكن لهذا الراتب شراءها بمرور الوقت.

وإن كان هذا هو معدل التضخم المتعلق بالمستهلكين، فإن هناك وسيلة أخرى لقياس معدل التضخم الخاصبأسعار المنتجين،حيث يبدأ التضخم من سلسلة التوريد من المنتج حتى تصل للمستهلك.

وأحياناً ما ترتفع الأسعار لأن الطلب يتجاوز العرض، الأمر الذي يؤدي بالبائعين إلى رفع الأسعار، كما أن المنتجين في بعض الأوقات يرفعون الأسعار لمواجهة زيادة تكلفة المنتجات التي يصنعوها بصرف النظر عن الطلب على هذه السلع.

وبمعنى أبسط فإنه كلما ارتفعت أسعار السلع والخدمات فإن الأموال التي تمتلكها تشتري منتجات أقل، لذلك فإن التضخم يتحكم في مستوى ثراء أو فقر الأشخاص.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان وصف للتضخم بأنه "عنيف مثل سارق ومخيف مثل لص مسلح ومميت مثل قاتل مأجور".

التضخم والبنوك المركزية

وظيفة البنك المركزي في أي دولة هي الوصول لمعدل تضخم مستقر ومنخفض مع تحقيق الحد الأقصى للتشغيل المستدام، فالبنك هو المسؤول عن الإبقاء على معدل البطالة عند أدنى مستوى له قدر الإمكان بدون التسبب في صعود متسارع للمستوى العام للأسعار.

فأهداف البنوك المركزية هي توازن معدل الفائدة على المدى الطويل واستقرار الأسعار وتوفير عمالة مرتفعة، حيث تسعى كل تلك العوامل نحو توفير بيئة مالية مستقرة.

وعندما يكون سعر الفائدة في أي دولة منخفضة، في تلك الحالة فإن البنوك يمكنها عرض قروض مقابل تكاليف منخفضة للأعمال والمستهلكين، ومساعدة الاقتصاد على النمو.

لكن عندما يرفع البنك سعر الفائدة فإن ذلك يكبح النمو الاقتصادي عبر جعل عملية الاقتراض للأفراد والشركات أكثر كلفة، لكنه في الوقت ذاته يقلص المعروض النقدي في الأسواق ويستهدف تهدئة تسارع التضخم.

أشهر حالات جنون التضخم

تعد أشهر حالة لارتفاع التضخم بشكل كبير هي التي حدثت في ألمانيا في أوائل عشرينات القرن الماضي، تحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حينما واجهت مطالب بتعويضات من الدول المنتصرة في الحرب.

ولم تتمكن ألمانيا من سداد تلك التعويضات بالأموال الألمانية حيث كان مشكوك في قيمتها نتيجة للاقتراض الحكومي، وفي مواجهة ذلك اتجهت الحكومة هناك لطباعة أوراق نقدية وشراء عملات أجنبية بالأوراق المطبوعة، واستخدامها بعد ذلك في سداد ديونها.

وأدت تلك السياسة إلى تخفيض سريع في قيمة المارك الألماني وارتفاع جنوني في معدل التضخم، وفاقم المستهلكين الألمان من المشكلة بمحاولتهم إنفاق أموالهم بسرعة قدر الإمكان متوقعين أنها ستكون أقل قيمة كلما مر الوقت.

وحدثت مواقف مشابهة لما حدث في ألمانيا في بيرو عام 1990، وزمبابوي في عامي 2007-2008.

وعلى الجانب الآخر، هناك واقع مغاير لارتفاع الأسعار وهي الانخفاض الحاد لها وقت الأزمة المالية العالمية، عندما تراجعت الضغوط التضخمية في عدد من الدول نتيجة انخفاض أسعار الطاقة والسلع.

وحدث ذلك مع أزمة الرهن العقاري التي نتجت عن التسهيلات الائتمانية الي كانت تقدمها البنوك لمقترضي الرهن العقاري في الاقتصادات المتقدمة بشكل خاص، وتزامن مع ذلك ارتفاع قروض عالية المخاطر التي يقبل عليها صغار المستثمرين أو العملاء بلا تاريخ ائتماني.

وترتب على ذلك أن العديد من الرهون العقارية كان يتم وضعها في مجموعات وبيعها للبنوك والمستثمرين الآخرين، مما أدى إلى تأثر عالمي بالأزمة.

ويعتبر تراجع الأسعار أو انكماش الأسعار أمراً غير جيد أيضاً للاقتصاد، لأنه يؤثر سلباً على أرباح الشركات وبالتالي على رغباتها التوسعية في التوظيف والاستثمار، كما أن المستهلكين يؤجلون قراراتهم الشرائية مع اعتقادهم أن الأسعار ستنخفض مع مرور الوقت ما يقلص الطلب على السلع في السوق.

وعانت أوروبا واليابان وعدد من الاقتصادات الكبرى من تراجع الأسعار وانخفاضها دون المستهدف والبالغ 2% تقريباً، ما دفعها للقيام بعمليات تحفيز نقدي (تيسير كمي) عبر ضخ سيولة في الأسواق المالية وخفض معدلات الفائدة لدفع البنوك لزيادة الإقرض الرخيص.

هل التضخم سيء دائماً للاقتصاد؟

في الوقت الذي يعتقد فيه البعض بأن التضخم سيء بالنسبة لأداء الاقتصاد، فإن بعض الاقتصاديين يرون أن الأمر لا يخلو من بعض الفوائد.

والداعمون لفوائد لتضخم يرون أنه يشجع الإنفاق الاستهلاكي، لأن عندما يفقد الدولار قيمته فهذا يشجع المستهلك على عدم الادخار والاتجاه نحو الإنفاق، كما أنه يوفر الثقة للشركات لتعيين موظفين جدد والتوسع في الاستثمار.

والعبرة في النهاية بحجم الزيادة في المستوى العام للأسعار، فانكماش الأسعار هو أمر ضار للاقتصاد، كما أن الارتفاع الحاد والسريع وغير المتوقع للأسعار أيضاً يمثل أزمة قوية لأي دولة.

ولذلك يضع كل بنك مركزي مستهدف للتضخم يسعى للوصول إليه بكل الأدوات الخاصة بالسياسة النقدية، من أجل التأكد من تحقيق الأهداف الاقتصادية الأكبر.