اخبار البلد_ في كل 15 أيار تأخذ فلسطين شكل القلب الكبير.. تخفق بذكرى النكبة، وتلهج بحق العودة، وتعيد ترتيب الدورة الدموية في شرايين التاريخ.
في 15 أيار الحالي نهضت فلسطين من اغلال الاعتقال على صوت مؤذن الانتفاضة الشعبية الثالثة.. توضأت من ينابيع المفاجأة، قبل ان تؤدي صلاة الغائب في محراب الصبر، وترسم نقاط العودة على حروب الغربة، وتصيخ السمع لالتقاط هدير الشباب الزاحف من الجهات الاربع لتقبيل يديها المباركتين.
بعد ثلاثة وستين أياراً اختلف هذا الايار عما سبقه.. شكل علامة فارقة وغير معهودة في دفاتر النكبة، واتاح لحشود الغاضبين تطويق كيان الغاصبين، واجتياز الحدود والسدود لمعانقة فلسطين، حيث امكن لابن يافا حسن حجازي ان يمتطي قافلة الحلم وصولاً الى مسقط رؤوس ابائه واجداده في عاصمة البرتقال الحزين.
هذا أيار مختلف، وسيكون له ما بعده، فقد وصلت رياح الثورات الشبابية العربية الى فلسطين، ليس على الحدود فقط بل في سويداء الاعماق ايضاً.. في المثلث والجليل والضفة وغزة، حيث انفتحت ابواب المقاومة الشعبية المليونية، وابتدأت انتفاضة فلسطين العربية او انتفاضة العروبة الفلسطينية، فيما انمحت الفوارق الموهومة بين النضال الوطني والجهاد القومي.
هذا أيار واقعي، ولكنه طالع من فضاء الرومانسية.. أيار دموي، ولكنه مكتوب بلغة شاعرية.. أيار فلسطيني، ولكنه مفصّل على مقاس الثورات الشعبية العربية.. أيار بلا مردود عاجل، ولكنه معبأ بالمعاني والرموز والدلالات والوعود المستقبلية.
بعد اليوم لا خوف على حق العودة مهما طال الزمان، وتكاثرت اوكار التآمر والتفريط، وتخاذلت جماعات الصلح والتطبيع.. فقد امسكت جموع الشعب العربي بزمام المبادرة، وفرضت نفسها لاعباً اساسياً على ساحة النضال، وقدمت اوراق اعتمادها لارواح الشهداء، وعاهدت الله والتاريخ ان تظل فلسطين وقفاً عربياً واسلامياً الى حين التحرير الشامل، والعودة المظفرة.
بعد اليوم لا معنى للغة السلام المزعوم، ولا جدوى من عبث المفاوضات المراثونية، ولا وجود لحدود 1967، ولا مجال لقيام دويلة فلسطينية افتراضية.. فقد عاد الصراع الى المربع الاول، باعتباره صراع وجود لا صراع حدود، كما عادت القضية الى عمقها الشعبي العربي، بعد ان سقطت كل تخاريف القرار الوطني المستقل، وصيحات >يا وحدنا< الانعزالية، ومبررات احتكار هذه القضية المركزية بوضعها في جيب محمود عباس.
من بين سطور الغطرسة تسربت الى رأس نتنياهو هواجس الخوف وخفافيش القلق.. قرأ احداث أيار الاخيرة قراءة متأنية.. التقط رسالة الثائرين الجدد وفهم معانيها ومغازيها قبل ان يصرح علناً بأن الصراع في جوهره وجودي لا حدودي، وان الكيان الصهيوني هو المستهدف الاول والاساس، وليس الوجود الاحتلالي في الضفة والجولان ومزارع شبعا فقط.
لعله الرئيس الامريكي توماس جيفرسون الذي قال : >الشعوب التي تسبق حكامها لا تحتاج اليهم<، وها هو الشعب الفلسطيني يسبق اصحاب الحكم الذاتي في رام الله، وقادة الفصائل المتقاعدة في الداخل والخارج، ومثقفي التبرير والتنظير والتمويل الاجنبي.. فيرفع راية المقاومة الشعبية بابسط الادوات في اصعب الاوقات، ويتصدى بارجوان الدم وموفور الشجاعة للسلاح الصهيوني الفتاك، وينادي على جماهير امته العربية كي تهب الى نصرته من وراء ظهور حكامها الرعاديد.
نفسياً.. سياسياً.. نضالياً توحد الشعب الفلسطيني رغم الشتات الجغرافي، وتحول 15 أيار الى ناظم مشترك اعلى يجمع ما بين القابعين تحت الاحتلال، والمشردين في اربعة اقطاب الارض، فيما حضرت فلسطين بكامل بهائها، واجمل مطرزات اثوابها، كي تبارك ابناءها الاوفياء الثائرين، وتلعن اعداءها ومن في حكمهم من الخائنين والخائبين والخاسئين.
سقط الخوف تحت اقدام العابرين الى الديار المسبية.. اضحى خارطة طريق تقود خطاهم الى وطن الاباء والاجداد، فالخوف شبح يرعب المتهيبين منه والمتباعدين عنه، غير انه يفر مذعوراً من طلاب الشهادة المصرين على مجابهته واقتحام اوكاره.. وها هم حزب الفيسبوك، وشباب المنافي والمهاجر لا يقهرون الخوف فقط، ولا يدقون جدران الخزان فحسب، بل يقرعون اجراس العودة ايضاً.
في 15 أيار الجاري وحّد الشعب الفلسطيني صفوفه، ولم يعد يلقي بالاً لحوارات المصالحة الفصائلية البائسة.. مثّل الشعب الفلسطيني نفسه، ولم يعد يعول كثيراً على ما يسمى ممثله الشرعي الوحيد.. استعاد الشعب الفلسطيني قراره، ولم يعد مرتهناً لحسابات الفصائل المنخورة والضالعة في المماحكات الفئوية والحزبية.. فرض الشعب الفلسطيني هويته وموجوديته، ولم يعد قابعاً في انتظار توصيفات الامم المتحدة، وتعريفات العواصم الاوروبية والامريكية.
>ثورة العودة< اعادت تسمية الاشياء، فيوم النكبة اصبح يوم الوثبة.. اعادت توجيه البوصلة، فطالب الحرية هو ذاته طالب التحرير.. اعادت ترتيب الاولويات، فحق العودة هو شرط تحقيق السلام.. اعادت إعراب الجملة المفيدة، فدرب التحرير هو درب انجاز الوحدة الوطنية والقومية.. اعادت انتاج الدهشة، فالخيال بات في متناول الحقيقة، والمستحيل صار في حكم الواقع، حتى امكن للعائد حسن حجازي ان يصل من مجدل شمس الى يافا، وامكن لشاب آخر ان يحمل لغماً ارضياً شديد الانفجار بين يديه العاريتين على مرأى عدسات الفضائيات.
طوبى لاصحاب انتفاضة العودة من مارون الراس الى رفح، فقد احيوا العظام وهي رميم، وانعشوا الآمال وهي حطام، واطاروا النوم من عيون العدو المستكبر، وفضحوا ديموقراطية اوباما المحصورة في الداخل العربي والممنوعة لدى الكيان الصهيوني، وكتبوا بدماء شهدائهم بيعة جديدة لفلسطين، وعهداً آخر للامة العربية بمواصلة مسيرة التحرير والعودة.
نعرف ان مشوار الحرية مازال طويلاً، وان ليل الغربة مازال حالكاً، وان شرط العودة مازال غائباً، ولكن امواج الطوفان تبدأ بقطرة، وعاتيات الحرائق تبدأ بشرارة، ورحلات الالف ميل تبدأ بخطوة، وبشائر الفجر تبدأ بتكبيرة تصدح بها مأذنة.. وصدق الحق جل وعلا اذ قال في سورة هود : >ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.