أخبار البلد - المتابع للحراك الإصلاحي في الأردن يلحظ تراجعا في الفعاليات الشعبية الداعية للإصلاح إثر أحداث دوار الداخلية في 25 آذار، والتي استخدمت الأجهزة الرسمية لقمعها "أسلحة محرمة" كادت تمزق النسيج الوطني والمجتمعي وتصيب الأردن في مقتل، لولا لطف الله ثم حكمة العقلاء.
وفي ظل الهدوء الظاهر هذه الأيام، يفرض السؤال نفسه بقوة: هل توقف الحراك الإصلاحي في الأردن، وهل تخلى دعاة الإصلاح عن مشروعهم، أم أن ما يطفو على السطح هدوء خادع، لا يعّبر بالضرورة عن حقيقة الحراك الجاري على الأرض؟
*****
لقد كانت الساحة الأردنية الأسرع في التفاعل مع الحراك الشعبي في تونس، وسبقت التحركات الشعبية في بقية الدول. لكن الراصد لمسار الحراك الإصلاحي في المنطقة يلحظ أنه كان يشبه كرة ثلج تتدحرج على الجليد، تكبر مع مرور الوقت، لكنها في الأردن كانت كرة ثلج تتدحرج على جبل صخري، تتقلص وتتآكل مع مضي الزمن.
الملاحظة الأخرى على التحركات الإصلاحية في الأردن، أن المشاركة فيها غلب عليها الطابع النخبوي، ولم تتحول بالقدر الكافي إلى حراك شعبي واسع يمثّل مختلف الشرائح والقطاعات.
الأجهزة الرسمية من جانبها استخدمت عدة استراتيجيات لمواجهة التحركات الشعبية المطالبة بالإصلاح:
• في الأسابيع الأولى استخدمت استراتيجية الاستيعاب والاحتواء، عبر السماح بتنظيم المسيرات والاعتصامات المطلبية، وتوفير الحماية لها، بل وتقديم الماء والعصير للمشاركين فيها، وأظهرت حرصا واضحا على تجنّب أي شكل من أشكال الصدام، تحاشيا لدفع الأمور نحو التصعيد والخروج عن نطاق السيطرة.
• ثم استخدمت استراتيجية التحييد لبعض القوى والفعاليات المشاركة في الحراك الشعبي. فتغيير حكومة الرفاعي أخرج بعض الأطراف من معادلة الحراك، حيث كانت ركزت مطالبها على الدعوة لإسقاط الحكومة وهو ما حصل بالفعل. كما تمكنت الأجهزة الرسمية من التأثير في حماسة قوى حزبية ونقابية للمشاركة بالفعاليات الشعبية عبر وسائل متعددة.
• بعد ذلك تم تشكيل لجان رسمية أنيط بها تقديم تصورات حول بعض الإصلاحات المطلوبة. وقد رأت العديد من القوى الإصلاحية في تلك اللجان وسيلة للتسويف وكسب الوقت واللعب على عامل الزمن، وبمصطلح الأخوة اللبنانيين "تقطيع الوقت"، من أجل تجاوز الأجواء المحتقنة والثورات الشعبية الملتهبة في أكثر من مكان.
في المقابل ثمة قوى رأت في تشكيل اللجان خطوة إيجابية يمكن الرهان عليها لتحقيق الإصلاح، فانخرطت فيها وشاركت في أعمالها، ما أدى إلى امتصاص حماسة تلك القوى لمواصلة الحراك الشعبي.
• وحين تصاعد الحراك الإصلاحي، ونظم شباب 24 آذار اعتصامهم المفتوح عند دوار الداخلية، خشيت الأجهزة الرسمية من أن يتحول الدوّار إلى ما يشبه ميدان التحرير في مصر، أو ساحة التغيير في اليمن، وأن يتسع حجم المشاركة في الاعتصام سريعا. الحكومة اختارت مواجهة الوضع الجديد بأسلحة متعددة استخدمتها في آن واحد:
الأول: سلاح البلطجية، الذي وإن كان استخدم بشكل محدود مع فعالية جرت عند المسجد الحسيني، إلا أنه جرى التوسع في استخدامه بعد 24 آذار، وبات البلطجية أحد الأدوات المهمة في مواجهة الفعاليات الشعبية، وتكرر الأمر في أكثر من مكان.
الثاني: استخدام فزّاعات التخويف المتبادل للشرائح الاجتماعية من انعكاسات الإصلاح على أوضاعها ومصالحها، وإثارة الضغائن بين القوى المجتمعية، تارة باستخدام فزاعة التوطين والوطن البديل وتغيير المعادلة السياسية والاجتماعية في البلد، وأخرى باستخدام فزاعة التخويف من سيطرة الحركة الإسلامية، وترويج أنها تخطط لقلب نظام الحكم.
الثالث: استخدام القوة في فض الفعاليات الشعبية عن طريق الأجهزة المخصصة لهذه الغاية، ما تسبب في سقوط جرحى ووفاة أحد المواطنين.
*****
أمام هذا الواقع، كانت القوى الإصلاحية مطالبة بإعادة النظر في خططها واستراتيجياتها، لا سيما وأن القناعة لديها راسخة بأن الفرصة الحالية لتحقيق الإصلاح قد لا تتكرر إن تم تفويتها، وقناعتها كذلك بعدم جدية الجهات الرسمية بإنجاز إصلاح حقيقي بإرادة ذاتية.
وإذا كان الحراك الإصلاحي بعد ثورة تونس، أخذ الطابع العفوي المتعجل الذي لم يسبقه بناء واستعداد للتعامل مع استراتيجيات قوى الشد العكسي التي وضعت المعوقات في الطريق والعصي في الدواليب، فإن الأسابيع التي تلت 25 آذار شهدت استدراكات في العديد من المجالات، ويمكن وصفها بأنها كانت مرحلة بناء واستعداد ومعالجة لبعض الثغرات، تمهيدا لانطلاقة جديدة من شأنها أن تفشل استراتيجيات قوى الشد العكسي. وفي السياق يمكن رصد جملة من التحركات:
- فخلال الأسابيع الفائتة جرى العمل بهدوء لإنضاج أطر وطنية واسعة تضم جهود مختلف اللافتات الداعية للإصلاح. ويجري الحديث عن إطلاق جبهة وطنية للإصلاح، يقف في صدارتها رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات، بعد أن استكملت الحوارات والمشاورات مع الأطياف المختلفة. ويوجّه تشكيل الجبهة رسالة واضحة للمجتمع الأردني بأن المطالبة بالإصلاح مطالبة وطنية واسعة، وليست تحرك حزب أو قوة سياسية أو شريحة معينة.
- وإذا كانت الجبهة الوطنية ستأخذ شكل الإطار الوطني العريض الذي يعنى بالتعبير عن الموقف السياسي الداعي للإصلاح، فإن إطارا وطنيا واسعا هو الآخر في طور التشكل، يمثل مختلف الفعاليات المتحركة بالمشروع الإصلاحي، لتنظيم جهودها في فعاليات شعبية تأخذ شكل كرة الثلج التي تكبر ولا تصغر مع مرور الوقت.
وإذا كان مهرجان الأردن الذي نظمته القوى الشعبية والشخصيات الوطنية والحركة الإسلامية قبل أسبوعين في ضاحية الأمير حسن، قد حشد في عتمة الليل وفي ظل البرد القارص أكثر من عشرة آلاف مشارك، فإن الفعاليات القادمة مرشحة لأن تشهد مشاركة جماهيرية أوسع، ويجري الحديث عن مهرجان الأردن (2) و(3)، وعن مسيرات واعتصامات وفعاليات مختلفة في الشكل والمكان.
- بموازاة ذلك، ثمة حركة نشطة لإعلان العديد من اللافتات والتجمعات المناطقية الداعية للإصلاح. فإضافة إلى التجمعات التي ظهرت في وقت مبكر، برز في الأيام الأخيرة تجمع عشائر بني حسن، وملتقى أبناء السلط الذي أطلق في اجتماع حاشد عقده قبل أيام وثيقة إصلاحية. كما عقد اجتماع شعبي ضم مئات الشخصيات الوطنية في مدينة معان للمطالبة بالإصلاح واستقبل خلاله وفد من قيادة الحركة الإسلامية، وعقد اجتماع مماثل في الكرك ضم نحو ألف شخصية وطنية، ، ويجري الحديث عن خطط لعقد تجمعات مماثلة في العديد من المناطق خلال الأيام القادمة.
- الشباب بدورهم يعيدون ترتيب أوضاعهم، وأشار بيان صدر عن تجمع 24 آذار الشبابي قبل أيام إلى فعالية كبيرة يجري الإعداد لها ولم يحدد موعدها.
- ولتفويت الفرصة على محاولات شق الصف، والتخويف من الإصلاح ومن قانون الانتخابات النيابية، عقدت العديد من اللقاءات وورش العمل للخروج بصيغة عملية لقانون انتخابات يوجه رسائل طمأنة لجميع الشرائح ويزيل مخاوفها من أي انعكاسات سلبية للإصلاح الحقيقي، وتمخض عن ذلك الخروج بصيغة متوازنة توافقت عليها شرائح متعددة شاركت في المؤتمر الوطني للإصلاح وطرحت صيغة قانون مختلط يوائم بين الانتخاب الفردي والقائمة النسبية على مستوى الوطن.
وتشكل هذه الخطوة في نظر كثيرين تطورا نوعيا، فالقوى المجتمعية التي كان يجري تخويفها من بعضها البعض، تمكنت من تجاوز اختلافاتها وتخوفاتها، ونظمت العديد من الحوارات، تمخضت عن التوصل لصيغة قانون يمثل نقلة مهمة لتطوير واقع الحياة السياسية، ويحافظ على هوية الدولة والمجتمع، ويحقق قدرا أكبر من العدالة المجتمعية. والمتوقع أن يجري تسويق الصيغة موضع الاتفاق على نطاق وطني واسع خلال الفترة القادمة.
إذا هو ليس هدوءا سلبيا يمهد لوأد الحراك الإصلاحي كما يروّج البعض، بل هو أقرب إلى عملية إعادة التموضع، استعدادا لانطلاقة جديدة، أكثر قوة واكبر زخما.. هو ربما يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة، لكنها عاصفة إيجابية، هدفها إنجاز الإصلاح الذي يحقق مصلحة الجميع، وليس مصلحة فئة على حساب أخرى.
*****
لكن ماذا عن اللجان الرسمية التي تم تشكيلها لمناقشة قانوني الانتخابات والأحزاب والتعديلات الدستورية، وكيف ستتعامل القوى الإصلاحية مع احتمالات الإعلان عن نتائج عملها خلال الأيام القادمة، وهل سيؤثر ذلك في الحراك والمطالبة بالإصلاح؟
القراءة تشير إلى أن أية مضامين إيجابية لمخرجات تلك اللجان، سيتم التعامل معه بإيجابية مماثلة. فتشكيل هذه اللجان وتحقيق مستوى معقول من الإصلاح من خلالها، سيمثل نجاحا لجهود قوى الإصلاح وثمرة لمطالباتها، لكن المرجح استمرار الحراك لاستكمال الإصلاح المطلوب والوصول إلى الغايات المنشودة.
بل ثمة من يرى أن الإعلان عن نتائج إيجابية لعمل تلك اللجان، سيشكل عاملا مساعدا للتحركات الإصلاحية لا معيقا لها، حيث كان واضحا في العديد من الساحات العربية، أن تحقيق بعض الإصلاحات تحت ضغط الشارع، كان يفتح الشهية للمطالبة بتحقيق المزيد.
أما في حال فشل تلك اللجان في تقديم مخرجات مقنعة، فإن من شأن ذلك أن يوفّر دافعا إضافيا جديدا لتأجيج الحراك وإثبات عدم جدية الجانب الرسمي بتحقيق الإصلاح.
*****
الكثير من العقلاء، يستغربون التخوفات الرسمية من دعوات الإصلاح الحقيقي، ويرون فيها تخوفا غير مبرر. في نظرهم ينبغي النظر للإصلاح في الأردن كفرصة للنظام ولكل مكونات الدولة والمجتمع لتحقيق المزيد من الازدهار والاستقرار، لا تحديا وخطرا ينبغي مواجهته والالتفاف عليه ووأده.
الرؤى الإصلاحية التي طرحها الملك منذ وقت مبكر، وجهت رسائل مهمة، وكان يمكن أن تشكل خطوة متقدمة لو تمت ترجمتها عمليا من الجهات المكلفة بتنفيذها، لكن الإبطاء والتلكؤ والالتفاف كان سيد الموقف، ما فوّت على الأردن فرصة الانطلاق نحو المستقبل بخطى واثقة، حتى قبل تفجر الثورات وتحرك الشارع العربي.
الأردنيون يأملون بأن تشرق الشمس في غد قريب وقد استكملوا تنفيذ مشروعهم الإصلاحي، وخطوا خطوات مهمة صوب مستقبل أكثر أمنا ونماء وحرية. وثمة قناعة بأن الملك هو من يملك تقليص نفوذ قوى الشد العكسي ومحاولاتها المحمومة لإعاقة مسار الإصلاح، خوفا على مصالحها وامتيازاتها وفسادها الذي يدفع ثمنه كل الأردنيين على اختلاف شرائحهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم.
الحشود الشعبية ما تزال تملأ الشوارع والساحات العربية، وكل المؤشرات ترجح استمرار الحراك الشعبي العربي لشهور طويلة قادمة، ورغم كل القمع المستخدم حاليا في أكثر من دولة عربية للجم الحراك الشعبي، فإن كل المحاولات القمعية باءت بالفشل، ولم تفض إلا إلى مزيد من التصعيد والتفجّر. ويخطئ من يراهن على عامل الوقت لتأجيل استحقاق الإصلاح.