والحقيقة ان الدرس الذي يريد بيسوا ان يستخلصه من هذا الدمج للأشياء في حياة الشاعر/ الإنسان، انما كان تعلُم كيفية العــــبور في الوجـــود كما تعبر الغيمة او الطير في الفضاء، ولا سيما تعلم حقيقة ان ما من سؤال وما من فكرة يمكنها ان تؤثر في الاشياء لتغيرها. ولذا من الافــضل ترك الروح على حالها تتلقى الاشياء كما هي طالما «ان نهــــر قريتـــي لا يدفع الى التفكير في اي شيء آخر. كما ان ما يحيط بالنهر انـــما هو محيــط بالنهر لا أكثر»... وبهذا فقط، في رأي بيسوا، يــكون في مقــدور الشاعر ان يمتلك الارض والسماء معاً... كـــدرس يستــخلص من «راعي القطيع»
كل هذا قد يبدو هنا أشبه بالكلمات المتقاطعة، عسيراً على الفكر وعلى التفسير، غير انه يدخل في صلب ما هو متوقّع ومعهود من بيسوا، الذي ربما لم يعرف تاريخ الأدب العالمي في القرن العشرين كاتباً اغرب وأطرف منه، هو الذي ينظر اليه بعضهم على انه من كبار شعراء النصف الاول من القرن العشرين، على رغم ان اعماله لم تترجم وتعرف على نطاق واسع إلا بعد رحيله، حيث اختفت مظاهر حياته الغريبة تحت وابل الأساطير الكبيرة التي انبنت من حوله. وإذا كان لنا ان نلخص اساطير بيسوا بكلمة واحدة فإنها ستكون: الأقنعة. فبيسوا الذي كان في الاساس رجلاً خجولاً وضائعاً، كان يفضل على الدوام ان يقدم نفسه للعالم عبر عشرات الأقنعة والأسماء المستعارة والشخصيات التي كان يخترعها ليوقع بأسمائها قصائده وكتاباته. ثم لا يكتفي بهذا، بل يخلق لكل منها سيرة حياة خاصة بها ويجعل لها تاريخ ولادة وحياة كما لو كانت شخصيات تعيش بالفعل. من هنا ما يقوله احد الباحثين البرتغاليين اليوم، من ان احداً لا يمكنه ان يزعم بعد، انه قد انجز إحصاء كل نتاجات بيسوا، الموزعة في عشرات الاماكن وتحت عشرات الاسماء والملامح. غير ان ما نعرفه من الشعر (والنصوص الأخرى) المنسوب حقاً الى بيسوا يكفي، في الحقيقة، لاعتباره شاعراً كبيراً، وليكشف عن انفصاماته التي هي انفصامات زمننا، وبؤسه الذي هو، ايضاً، بؤس زمننا.
بيسوا الذي رحل عن عالمنا في العام 1935، ولد العام 1888 في لشبونة التي سوف يموت فيها أيضاً. بيد ان طفولته لم ترتبط بتلك المدينة البرتغالية العريقة قدر ما ارتبطت بأفريقيا، وبخاصة بمدينة داربن في جنوب افريقيا التي اصطحبته امه اليها صغيراً بعد وفاة والده، لتعيش في كنف زوجها الجديد. في داربن تلقى بيسوا دراسته الابتدائية ثم الثانوية وبعدها درس التجارة باللغة الانكليزية التي اتقنها اكثر من لغته الأم وظل مرتبطاً بها طوال حياته. لم يعد بيسوا الى البرتغال الا وعمره أربى على السابعة عشرة، وهناك تنقل في العديد من المهن التي بدأت ترسم له اقنعته قناعاً فوق الآخر، بخاصة حين عمل في تحرير الرسائل التجارية لأصحاب الاعمال، فكان يعتبر كل رسالة قناعاً جديداً، لأنه هنا أُرغم على كتابة ما يوقع عليه بأسماء أخرى، وتلك عادة اكتسبها يومها ولم تبارحه بعد ذلك ابداً. في التوازي مع عمله التجاري كان بيسوا يقرأ عشرات النصوص اسبوعياً فيتنقل كالطير بين الفلسفة والشعر والكتابات اللاهوتية كما بدأ يترجم العديد من النصوص الى البرتغالية. ووسط هذا كله كان يتملك بيسوا هاجس الجنون، فبسبب جدة له اصيبت بمسّ، كان الرجل موقناً انه سيجن. ومن ناحية اخرى كانت ذكرى جد قديم له، كان يهودياً عُذّب من قبل محاكم التفتيش، تؤرقه وتشغل باله فخلفت لديه عقدة اضطهاد. ومن المؤكد ان قراءة متأنية لكتابات بيسوا سوف تقودنا بالضرورة الى هــذين الهاجسين. ومن المؤكد ايضاً ان لهما علاقة بأقنعته الكثيرة.
عند اندلاع الحرب العالمية الاولى، بدأ بيسوا ينخرط في تلك الحلقات الأدبية التي تسعى إلى ربط البرتغال بأوروبا والعثور لهذا البلد على موقع في العالم. وفي هذا السبيل كان صاحبنا سريع التنقل بين التيارات حتى استقر به المقام لفترة بين انصار المستقبلي الإيطالي مارينيتي. وكان ذلك الاستقرار دافعاً له لكتابة بعض اشهر اعماله والاهتمام بالسياسة، ولإصدار المجلة الأدبية بعد المجلة، حيث كان ينشر عشرات القصائد والكتابات بشتى الاسماء المستعارة. وظل هذا دأبه حتى أودعته السلطات السجن لليلة وأوقفت له مجلته «البرتغال المستقبلية» في 1917، حين نشر قصيدة عنيفة له اعتبرت دعوة إلى ولادة الفاشية. بعد ذلك وجدناه ينشر على حسابه قصائد كتبها مباشرة بالإنكليزية اتسمت بطابع كلاسيكي وأكسبته شهرة في الخارج ما بدأ يلفت اليه الانتباه. ومنذ ذلك الحين لم يكف عن الكتابة: كتابة فلسفية وسياسية وشعرية ونقدية مؤمناً بأن وجوده كله انما يتمحور من حول كيانه الأدبي لا غير. وكان من أبرز كتب تلك المرحلة «الدكتاتورية العسكرية» و»المصرف الفوضوي» و»كتاب القلق» التي تعتبر من أعماله الاساسية. ومنذ 1927 ازدادت شهرته وصارت له حلقة من اتباع راحوا يبحثون في اعماله ويحللونها. ولكن الأوان كان قد فات، حيث ان وجوده الأدبي بدأ يحل تماماً محل وجوده الطبيعي، اذ ما مرت ثمانية اعوام الا وجدناه يرحل عن عالمنا ليخلّف واحدة من أطرف الأساطير في أدب زماننا.