أخبار البلد - رنا الصباغ
هل تكفي مبادرة الحكومة بإعفاء مدخلات إنتاج الصحف اليومية، وزيادة تعرفة الإعلانات الحكومية، ومضاعفة عدد اشتراكات الوزارات، لانتشال هذه المؤسسات الصحفية من أزماتها المالية الخانقة، والمفتوحة على الاحتمالات كافة؟
بالتأكيد لا! فهذا التحرك المتأخر أقرب إلى "الضحك على الذقون" لتطييب الخواطر. ويظل نقطة في بحر مائج، قياسا بحجم الأزمة الطاحنة التي تعصف بـ"الرأي" وشقيقتها "الجوردان تايمز"، إضافة إلى "الدستور"، و"العرب اليوم" (تمويل خاص). ويستثنى من ذلك صحيفة "الغد" (الخاصة) التي سجلت ربحا طفيفا العام 2014.
خطوة الحكومة قد تمكن القائمين على غالبية الصحف من إرجاء الانهيار لعدة أشهر، ما لم تنزع إلى إعادة الهيكلة، وإلا مواجهة خيار الإفلاس. نعم، هذه هي الحقيقة المؤلمة.
إزاء ذلك، دعونا نسأل عن الجهات التي ساهمت في حفل إعدام الصحف؟
حزمة عوامل موضوعية ومهنية: تداخل المرجعيات التي تدير ملف الإعلام بعد إلغاء وزارة الإعلام على الورق قبل عقد، والردّة عن الإصلاحات السياسية وحرية الرأي والتعبير في البلاد، حال غالبية الدول، تحت مسمى حماية الأمن الوطني من تحديّات الإرهاب العابر للقارات. أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار الورق في السوق العالمية، وتراجع الطلب على المطابع التي كانت ترفد هذه المؤسسات بجزء كبير من الأرباح لتغطية نفقاتها التشغيلية. وكعكة "سوق الإعلان" تتضاءل بتسارع، وسط تراجع قدرة المواطن الشرائية، وانتشار إذاعات الـ"إف. إم" والفضائيات ومنصات الفضاء الإنترنتي. والأهم، عزوف عديد قرّاء عن قراءة الصحف، بسبب سياسات التحرير المبنية على خطب رضا المسؤول وتجاهل نبض الناس. في الذاكرة، ملفات مصيرية وأخبار مهمة تغيّب بدعوى "الأمن القومي" أو "حماية المصلحة الوطنية" أو المحافظة على علاقات جيدة مع الدول الحليفة والصديقة.. وغيرها! وهكذا ارتحل عديد قرّاء إلى الإعلام المجتمعي و280 موقعا إخباريا، غالبيتها ينزع نحو الإثارة على حساب المهنية.
هل الوضع قابل للإنقاذ؟
ممكن. لكن ذلك يتطلب التضحية بعشرات الصحفيين من "الحمل الزائد الناتج عن تعيينات نفعية ومصلحية"، ساهمت فيها المؤسسات الرسمية والسيادية. وكذلك تغيير عقلية القائمين على هذه المؤسسات، لاسيما أن "خريف الصحافة" كان يتلبد في الأفق في أميركا وأوروبا منذ عقد، من دون أن نتحسب هنا لما هو قادم، بل انهمكنا في الحفاظ على الوضع القائم وتعظيم المكاسب و"البرستيج".
لم يكترث القائمون على هذه المؤسسات لثورة الإنترنت، وتطبيقات الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتقليعة "المواطن الصحفي" التي غيّرت إلى الأبد وجه الصحافة الورقية باتجاه الفضاء الرقمي.
ما تمر به مؤسسات هؤلاء اليوم هي ذات العاصفة التي واجهت كبريات المؤسسات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا. لكن الفرق بيننا وبينهم أن غالبية المؤسسات في الخارج بحثت خارج الصندوق لاجتراح حلول واقعية، بحثا عن طوق نجاة. ولجأت إلى تسريح مخضرمين ذوي أجور عالية، مقابل مكافأة نهاية خدمة مبكرة. ثم أدخلت صحفيين شبابا متعددي المهارات، قادرين على تحميل الأخبار عبر وسائط متعددة (ملتيميديا)؛ صوت وصورة وكلمة، في تغيير للمنتج الإعلامي.
بالتزامن، أُخضع من تبقّى من الجيل القديم لتدريبات مهنية وتقنية، حتى يلتحقوا بركب الشباب ويخدموا المنصات المتداخلة. ثم ركزوا على تطوير مواقعهم الإلكترونية، وفصلوها تحريريا عن النسخة الورقية، وفعّلوا خدمة الاشتراكات لدخول هذه المواقع وتصفحها، وتحميل المواد بالتوازي مع تقديم باقة خدمات جديدة يطلبها القرّاء، أو تواكب التغير في آليات عمل سوق الإعلانات. فدخل على الخط مفهوم الإعلان الالكتروني. ثم شرعت هذه المواقع في نشر/ بث أخبارها بنسخ مكتوبة وإذاعية ومتلفزة، فضمنت بقاءها، أقلّه عبر تغطية نفقاتها الرئيسة.
موقع صحيفة "الغارديان" الإلكتروني (بريطانيا)، بات اليوم أيقونة لمتطلبات صناعة الإعلام الجديدة، حال موقع "نيويورك تايمز" الأميركية و"بوليتيكن" الدنماركية، والحبل على الجرار. وهناك أيضا تجربة تلفزيون (فايس) عبر الإنترنت، بإدارة شباب دون الثلاثين من العمر في بريطانيا، وهو يستقطب أكثر من أربعة ملايين مشاهد.
صحيفة "المصري اليوم" (ملكية خاصة) كانت من رواد التطوير. سارعت إلى تعديل قاعدة القراء وفق اهتماماتهم وأدوات التواصل، بعد أن اكتشفت أن ستة من كل عشرة قرّاء يتصفحون محتواها من خلال "الموبايل". وقد طوّرت موقعها الإلكتروني بسواعد شباب، ثم استحدثت موقعا مساندا (المصري لايت)، لتقديم وجبة أخبار خفيفة تثير شهية الشباب عبر تطبيقات الهواتف الذكية و"صحافة اللوائح". وبعدها بأسابيع، أطلقت موقع "شارك" للمواطن الصحفي، حيث تنشر صور وأخبار يرسلها أي مواطن، بعد أن يحرّرها صحفيون محترفون. كما فعّلت الصحيفة دور مركز التدريب الإعلامي ليوفر دخلا اضافيا.
بالإمكان أخذ العبر والدروس
مقابل الاشتراك أو التحميل بعد الدفع، يحصل المشترك أو المتصفح على باقة أخبار شافية وافية، وتحليلات وتحقيقات استقصائية في العمق، تعكس آراء جميع الجهات وليس موقف الحكومة فقط. كما يمكن متابعة مقالات رأي لكتاب زوايا يمثلون جميع التلاوين السياسية؛ معارضة وموالاة وما بينهما من مواقف، تنتقد الخطاب الرسمي والفساد وهدر المال العام. مواقع وصحفيون لا يعملون تحت سيف الرقابة أو يجيرون أقلامهم لخدمة أجندة الحكومة والمؤسسات السيادية، بل يمارسون دورهم كسلطة رابعة: حارس لمصلحة الشعب والمجتمع وصوت الضعفاء والمقهورين، وأداة لمحاسبة المسؤولين عن أقوالهم وأفعالهم في دولة القانون والمؤسسات.
عودة إلى الأردن، حيث يختلف الوضع جذريا
إنقاذ بعض اليوميات ما يزال ممكنا. لكن ذلك يتطلب تقليص النفقات التشغيلية، من خلال تسريح 60 % من كادرها الصحفي. هذا خيار شبه مستحيل، لأن الثقافة الاجتماعية لا تسمح بذلك. ولأن نقابة الصحفيين والنواب سيكونون أول المعارضين.
التسريح يتطلب أيضا دفع مكافآت نهاية خدمة مبكرة مجزية، لا تملكها هذه المؤسسات لكي تطيب خواطر المسرحين. كما تتطلب إعادة الهيكلة أن يتقبل رؤساء التحرير ومجالس الإدارات الحقيقة المرة، بأن واقع الصحافة قد تغير إلى الأبد. كبداية، عليهم التضامن مع موظفيهم من خلال تقليص رواتبهم الفلكية، وتطوير المواقع الإلكترونية، ورفع سقف الأخبار والتحقيقات ومقالات الرأي ورفض الأوامر التي تأتيهم من متنفذين.
مطلوب من مؤسسة الضمان الاجتماعي التي تملك أكثر من 55 % من أسهم المؤسسة التي تنشر "الرأي" و"الجوردان تايمز" أن تنشر نتائج تحقيق طال أعضاء في إدارات سابقة، ساهمت في خلق أزمة "تجمع المطبعة" بكلفة 35 مليون دينار. فهذه أموال الأردنيين، وإدارة "الضمان" مؤتمنة على حسن إدارتها، وليس "الطبطبة" على الكوارث. كما تستطيع أيضا دمج "الرأي" مع "الدستور"، بما أنها تملك 33 % من أسهم هذه المؤسسة. لكنها لا تستطيع ضخ أي أموال إضافية لمعالجة أخطاء الآخرين.
لماذا لا يتوقف زملاء عن المطالبة بزيادات وحوافز إضافية، ويسألون أنفسهم إن كانوا يستحقون هذه المنّة؟ أكثر من 30 موقعا إخباريا يديرها صحفيون على كادر إحدى المؤسسات المتعثرة. "أيام المشمش" ولّت، ولا بد من تقبل الواقع والتكيف معه، بدلا من إغراق المركب وجميع من عليه.
جزء من الحل يكمن أيضا في تطوير خدمات متنوعة ذات ميزة نسبية، والانخراط في معركة تسويق شرسة لكسب المعلنين.
والأهم أن على رؤساء التحرير فتح مؤسساتهم لكتاب يمثلون الطيف السياسي ضمن مظلة الدستور، وليس حصرها بجوقة الكتاب المرضي عنهم. وأيضا توسيع قاعدة مشاركة رؤساء الأقسام في تحديد الخط التحريري في إطار أخلاقيات المهنة المقدسة، والعمل ضمن المحددات القانونية بين حق النقد المتاح والمباح بدلا من تقييد مؤسساتهم خلف خطوط حمراء وهمية.
حال "الغد" أفضل بكثير. فهي رائدة في تطوير موقعها الإلكتروني، وتفعيل خدمات الوسائط المتعددة وجذب إعلانات الكترونية.
تلتف أنشوطة الإعدام حول الجسم الصحفي بيد القائمين عليه. المشكلة منهم وفيهم. وإجراء الحكومة التجميلي لن ينقذ هذا القطاع الذي يغرق تحت وطأة سياسات تحريرية متكلسة، ومشارط الحكومات وجهات كسرت الجدار بين الصحفي والبوق الإعلامي.