ذكريات معلم ( 3) المعلمون هم روح الأردن

ذكريات معلم ( 3) المعلمون هم روح الأردن
أخبار البلد -  

كان ثلج الشوبك الكثيف مفاجئا صاعقا بالنسبة لي، انا الذي ولدت في بادية الشام في "الاجفور- واسمها الرويشد الآن" على الحدود العراقية الأردنية، وعشت معظم سنيّ عمري في المفرق ومعان، لم تكن لي خبرة في التعامل مع الثلج، فأنا ابن الغبار والسراب والهجير والمدى البني الصحراوي الاجرد، وقد اوشكت على الهلاك والموت تجمدا انا وزميلي المعلم جليل الهلسا في الطريق من مدرسة مجرا الى المزار الجنوبي عام 1969 ولم ينقذنا الا الطالب محمد القطاونة الذي اصبح رئيسا لبلدية المزار لاحقا.

تواصل الهطل متقطعا لمدة شهرين تقريبا، كنت في عزلة عن العالم ما خلا الطلاب – الأطفال العشرة، الذين كانوا يقضون معظم نهارهم في غرفتي، يدرسون وينجزون الواجبات المدرسية ويشربون الحليب الساخن المضاعف التحلية عندما يريدون، ويتناولون المربى "التطلي" وصوبة البواري تجعل وجوههم حمراء كحبات الشمندر.

حاولت ان اطهو لطلابي ولي، الأرز والفاصولياء البيضاء والبازيلاء والحمص الناشف والعدس الحب، وضعتها كلها في الطنجرة الكبيرة وسكبت عليها ماء ورششت عليها الملح وذريرات الفلفل الاسود وتركتها نحو ساعة على نار البريموس – بابور الكاز- وصدمنا عندما سكبنا مزيج الحبوب المطبوخة في صينية كبيرة واخذنا نتغدى، لم ينضج من المزيج الا الأرز فقد ظلت باقي أصناف الحبوب على صلابتها، ولاحقا عندما اخبرت والدتي بما جرى قالت لي انه كان يجب ان انقع الحبوب بالماء عدة ساعات قبل طبخها، المهم انني عوضت ذلك بان فتحت عدة علب سردين وتونا وقليت عددا من البيضات بالسمن البلدي فتناولنا "غموسنا" بخبز الشراك المعجون من القمح البلدي.

مر شتاء عام 1966 قاسيا علي، فقد كنت في غربتي الأولى بعيدا عن اهلي في المفرق مئات الكيلومترات وبعيدا عن الطريق العام الذي يخترق "الشماخ"، القرية المجاورة نحو 5 كيلومترات، لم يكن في القرية معي الا الطلاب وعجوزهم العمشاء كليلة النظر، فاخذت أخطط الى مغادرة "القماط" الحديدي الذي انا فيه والاتصال بالمعلمين في القرى المجاورة، فاغتنمت صحو السماء وترافقت مع قروي عابر سبيل وذهبت ظهر يوم خميس الى بئر الدباغات وهناك التقيت المعلم محمد الملكاوي الذي كان منفردا هو الاخر.

استضافني الملكاوي وامضينا الليل في الثرثرة التي كان كلانا محروما منها وفي الصباح توجهنا الى الدكان القريبة التي تقع على الطريق الواصل بين الشوبك ووادي موسى وكان في الدكان هاتف عمومي، ولما دعاني التاجر عوض الى الاتصال مع الاهل اكتشفت انه لا يوجد هاتف في كل حارة المعانية التي نسكن فيها في المفرق. كان عوض يبيع الهيشي والسكر والكبريت والراحة "الحلقوم" وقطع الحلوى الشعبية " الكعكبان- التشعتشبان" والزبيب والتين المجفف "القطين" والطحين والكاز ومعلبات السردين والتونا والبولابيف.

أصبحت امضي "الويك إند" في ركوب الخيل من قريتي الى وادي موسى والبتراء حيث انام ليلة في الفنادق الشعبية او امضي "الويك إند" في ضيافة المعلم محمد الملكاوي في بير الدباغات كلما سمح لي مناخ الجو بالحركة، كنت اتحرك بعد ظهر يوم الخميس وانام في الدباغات ليلتين واتحرك عائدا الى طلابي ومدرستي صباح يوم السبت فامشي المسافة الفاصلة بين المدرستين والندى يبلل رموش عيني، اصعد المرتفعات واهبط المنحدرات في الطريق الترابي الفاصل بين القريتين متحزما بمسدسي البيرتا، الذي استبدلته لاحقا ببندقية خرطوش، اصطدت فيها حجلا بالعشرات، كنا نعكف انا وزميلي الملكاوي على نتف ريشه وتنظيفه في الماء المغلي ثم نشويه على حطب البلوط واللزاب وناكل اشهى "باربكيو" تناولته في حياتي.

تقع بئر الدباغات وسط غابة يسميها القرويون "الهيشي" تعودنا ان ندخلها بحثا عن القنيص فنعثر أحيانا على ارنب، ارفض ان اطلق النار عليه لانني لا اطيق رؤية الارنب مسلوخا ولم أتمكن من اكل لحمه في حياتي، اقترحت على الملكاوي ان نسكن معا في بير الدباغات او بير أبو العلق فقال مازحا: "الدباغات ارقى!!" وأضاف الدباغات تقع على الطريق العمومي وفيها دكان وهاتف! كان مصيبا، فحملت "يطقي" المكون من سرير وفرشة ولحاف على بغل دبّره لي عوض، وسكنت في الدباغات ثلاثة أشهر، الى ان جاءت العطلة الصيفية، كنت كأنني تحت رقابة مشددة، امشي نحو 10 كيلومترات بين القريتين يوميا، الى طلابي ومدرستي في اجمل واكمل وامتع رياضة يمكن ان يمارسها انسان، ترتب على ذلك المراثون اليومي ان تركت التدخين! نعم كنت اتنفس رحيقا وربيعا وطبيعة تأسر الالباب، كنت امر في طريقي على افعى متكورة، لم يتحرك بعد دمها البارد، فلا ادوسها ولا اقتلها، وكنت المح "الحصيني" فاوشك ان ادعوه الى الغداء، وحصل ان صادفت قرويا، لعله عم طه الهباهبة او رمضان الرواشدة او باسل الرفايعة او خلدون الرواشدة، يمشي بتثاقل فلما سألته، شكا لي من منطقة الكُلى، ولأنه كان متعذرا ان اصف له "البيرة" علاجا، فقد وصفت له ماء الشعير المغلي الذي طلبت منه ان يشربه على الريق وقبل النوم يوميا، واقسم بالله ان الرجل هرع اليّ عندما رآني بعد نحو شهر وهو يقول: الله يبيض وجهك يا الطفيلي، طبت طبت من مية الشعير.

لا يتمكن المرء من وصف مناخ الشوبك الخلاب وخيراتها من دون ان يخلّ بأمانته، فقد حملت تفاحا وسفرجلا من الشوبك الى الاهل في المفرق واهديت شيئا منه الى "المعلم" الكبير محمد سكّر، الذي اندهش من طعم التفاح ونكهته ورائحته، وقال لي يمكنك يا محمد ان تحمل هذا التفاح هدية الى اللبنانيين اهل التفاح.

اصبحنا نتزاور ونلتقي عندي في "البير" او عند الملكاوي او عند مأمور العيادة عدنان خليل خطاب في بير خداد او عند محمد موسى النعانعة معلم مدرسة الشمّاخ المنفرد او عند امين الصغير معلم مدرسة "حوالة" المنفرد أيضا، نتبادل الكتب والاراء السياسية، نتحدث عن عبد الناصر والاتحاد السوفييتي وأميركا واسرائيل والغريب ان المرأة بكل جلالها، لم تتخلل احاديثنا برغم اننا كنا مجتمعا من العزّاب، فهي بالنسبة الينا، مخلوقة فضائية موجودة فقط في القصائد والروايات، يهبط القلب لرؤيتها في الدورات التربوية او لدى اللقاء الشهري لاستلام الراتب في البنك او في سرفيس معان-عمان اخر كل شهر.

لقد تمكنت من كسر حاجز العزلة وحصار الثلوج ولعنة "المعلم المنفرد"، وبالقدر الذي كنت فيه سعيدا بالخروج من القفص، لمحت الحزن على وجوه طلابي لأنني خذلتهم بمغادرة حوزتهم.

ابصرت النور طفلا "منفردا" في حالة حصار، فقد حدثتني امي انها أصيبت بحمّى النِّفاس عندما وضعتني، ولانها شارفت على الهلاك فقد حملتها سيارة شركة نفط العراق، حيث عمل الوالد، من الاجفور الى المستشفى الطلياني بعمان ومكثَت نحو ثلاثة أسابيع بين الحياة والموت. كانت ترافقها جدتي فضية ام إبراهيم، التي رفضت ان يحملنني معهما الى عمان وعندما أصرت امي على اصطحابي، هددتها جدتي، الصارمة ذات الشخصية القيادية الطاغية، بانها ستقذفني من نافذة السيارة ان هي حملتني معها، وهكذا بحثت خالاتي عن أمهات انجبن حديثا، لإرضاعي، فوجدن ثلاث أمهات، الام الأولى هي الحويطية سالمة مسلّم العواسا النجادات، ام عيد غنام الفيومي من العقبة، التي شاركتُ طفلَها عيد حليبه، فوهبني الله أما رؤوما واخا غاليا ما أزال ارتبط بازهى الروابط باسرته وبنجله فارس عيد غنام الفيومي الذي ازوره في العقبة كلما تيسر. والام الثانية بدوية أيضا من اهل الجبل "إجْبِلية" لم أتمكن من العثور عليها برغم محاولاتي المضنية، اما الام الثالثة فهي عراقية من كركوك، كانت زوجة احد مراقبي الخط الناقل للنفط من كركوك الى حيفا وقد انقطعت اخبارها حين انتقل زوجها للعمل في محطة الـ "اتش ثري".

كل ذلك العناء كان بـ 20 دينارا و18 قرشا هو راتبي الشهري!! كنت اوزعه على النحو التالي: 6 دنانير لمصاريف اهلي وديناران للوالدة ودينار قسط شهري لبنطلوني الهيلد الإنجليزي علاوة على نفقات شراء الكتب والاكل والشرب والكساء والغذاء، والمواصلات، ومن الغرائب انني ما مرضت وما تناولت حبة دواء طيلة خدمتي في الشوبك التي امتدت 3 سنوات في بير أبو العلق ثم بير الدباغات ثم الشمّاخ.

المعلمون بلا منازع، هم روح الأردن، توغلوا في بقاع الوطن كلها واقتحموا اكثر الحواجز شدة وبأسا، ما تركوا بقعة لم يكافحوا من اجل انارتها وبث البصيرة والاشعاع والحروف فيها واذا كان هذا العناء هو ما واجهه المعلمون آنذاك، فماذا نحدث عن بناتنا المعلمات اللواتي اجترحن المآثر وعشن حياة لا تدانى في شظفها وقسوتها، واذكر ان دولتنا ادركت ان العمل في الجنوب، الذي كان منفى السياسيين الأردنيين، استحق علاوة للمعلمات كانت تسمى علاوة الجنوب مقدارها 5 دنانير أي نحو 25 % من الراتب ارجو انها لاتزال تصرف لمعلماتنا في السلع وبصيرا والقادسية والزبيرية والشماخ وبير مذكور وبير أبو دنة وغيرها من القرى التي تمتاز بحدة جوها وقسوة ظروف العيش فيها.

بالامس لبى الملك مطلب تدفئة مدارسنا التي كانت صفوفها "فريزرات" لا يمكن لمخلوق سوى الاسكيمو البقاء في صقيعها لدقائق، وهو ما دفعني قبل 50 عاما الى نقل مقاعد التدريس "الرحالي" لأعطي الدروس في غرفتي المزودة بالصوبة، رحمة بالطلاب وبي أيضا.

 
شريط الأخبار حزب الله: نخوض اشتباكات ضارية مع جنود متسللين لمارون الراس وأوقعنا بهم اصابات محققة الملخص اليومي لحجم تداول الاسهم في بورصة عمان لجلسة اليوم الاربعاء .. تفاصيل في حالة نادرة.. امرأة بـ"رحمين" تنجب توأمين الخامنئي: لدي ما أقوله بشأن فقدان السيد حسن نصر الله وما يجري في لبنان وسأعرض ذلك قريبا القصف الإيراني لإسرائيل - تضرر نحو 100 منزل في مدينة قرب تل أبيب الخارجية الإسرائيلية تنفي اختطاف السفير الإسرائيلي ومرافقيه في قبرص تفاصيل عملية إطلاق النار في "تل أبيب" الأردنيون في ليلة الصواريخ.. دحية على الشظايا وأبو حمزة يشعل سيجارته بنيران مقذوف رئيس الوزراء يتفقد المركز الصحي الشامل في منطقة رحاب بالمفرق ايران تكشر عن أنيابها وتهدد: اي دولة تستخدم اجوائها في ضربنا ستتحمل المسؤولية رسميا.. إعلان نتائج الشامل للدورة الصيفية ونسبة النجاح 62.9 % (رابط) حزب الله استعاد القيادة والسيطرة والميدان شاهد عليه كوريّة جنوبية تبلغ 81 عاماً يخونها تاج ملكة الجمال 5 أطعمة ممنوع تناولها بعد سن الستين 9 شهداء في قصف على دار أيتام في غزة وفيات الأردن اليوم الأربعاء 2-10-2024 9 شهداء بقصف مدرسة ومعهدا للأيتام يؤويان نازحين في مدينة غزة «حزب الله» يعلن التصدي لمحاولة تسلل... وإسرائيل تتحدث عن «قتال عنيف» حزب الله: تصدينا لقوة مشاة للاحتلال حاولت التسلل إلى جنوب لبنان الدويري: هذه مميزات صاروخ "فتاح 1" الإيراني الذي ضرب إسرائيل