تشاء المصادفة - وربما ما هو أبعد منها - ان أقرأ كتاب روبرت كابلان بعنوان انتقام الجغرافيا اثناء الاقامة الجبرية التي فرضها علينا الثلج، وأول ما خطر ببالي فور البدء بقراءة الكتاب هو ان الجغرافيا ليست كما يتصورها البعض مجرد مسرح لصراعات التاريخ، انها التاريخ ذاته وقد اصابه التخثّر او التصلّب فأصبحت ذات تضاريس طبيعية ومن ثم تحولت الى خرائط سياسية .
ما يقوله مؤلف الكتاب هو ان البيئات الجغرافية كان لها دور البطولة في صياغة ثقافات ومفاهيم . ويختار العديد من الأمثلة، منها فهْم النازيين للجغرافيا السياسية ومحاولتهم توسيع رقعة بلادهم من خلال التمدد والاحتلال، ومنها ايضا القسوة والعناد لدى سكان السّهوب الروسية، والجغرافيا ليست مناخا فقط، انها ثروات معدنية يمكن الاستعاضة بها عن مصادر اخرى، كما هي الحال في الصين التي لا تستطيع كما يقول كابلان تغذية اكثر من ثلاثين أوعشرين بالمئة من سكانها والاراضي الصالحة للزراعة فيها لا تزيد عن سبعة بالمئة .
وهو يذكّرنا بالحالة المصرية حيث يقيم تسعون مليون انسان على مساحة لا تتجاوز السبعة بالمئة من بلادهم، وكون الجغرافيا محركا اساسيا للتاريخ امر اصبح من المسلمات، ولعل اقرب الأمثلة الى الذاكرة العربية هو ما سمي قبل نصف قرن غزو الأساطيل بحثا عن المياه الدافئة .
ان موضوعات هذا الكتاب تستكمل سياسيا واقتصاديا ما قيل عن انتهاك البيئة من الجماعات الخُضر، فالبيئة التي اشبعت بمختلف الاكاسيد واستبيحت من خلال التصحّر وزفير المصانع مارست انتقامها ايضا سواء من خلال التصحر او امراض جديدة لم يكن الناس سعوا بها من قبل كجنون البقر والانفلونزا التي شملت الدجاج والخنازير وقد تشمل كل الكائنات . فالانسان الذي لم يقم وزنا للبيئة واستخف بها دفع الثمن، انه اشبه بمن يقضم ثدي امه التي ارضعته، ويبدو ان ما سماه فوكوياما النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة هو ما يسميه كابلان النظام الجغرافي الجديد، وما قسوة الطبيعة التي حذفت الحدود بين الفصول الأربعة، كما ادى ثقب الاوزون الى الاختناق بارتفاع درجات الحرارة الا ردود افعال انتقامية وكأـنها تثأر لنفسها من هذا العقوق البشري، فالطبيعة تقوم على معادلات وتوازنات بالغة الدقة، وما يقوله الامريكيون في هذا المجال قد يبدو طريفا لكنه من صميم العلم وهو ان الافراط في استخدام المبيدات خصوصا ال دي . دي . تي اصبح يقتل العصافير فقط لأن الذباب تلقّح به وأدمنه وربما سمن منه !
وكلما فرض علينا هذا الزائر الثقيل الذي يخلع الابواب ولا يطرقها الاقامة الجبرية تذكرت على الفور ما فعلناه بأمنا الأرض وها هي تنتقم كما لو انها زوجة أب شريرة !