لطالما قيل إن تخفيض النفقات التشغيلية، كرقم مطلق، غير مجد ماليا، نظرا لانخفاض نسبتها إلى إجمالي حجم الموازنة العامة للدولة. كما قيل أيضا، في المقابل، إن تخفيض قيمة هذا البند، إنما يعني صدق النوايا الحكومية بشأن إصلاح القطاع المالي، والتخفيف من التشوهات التي تعاني منها الموازنة العامة.
في موازنة 2015، نكتشف -للأسف- أن الحكومة غير جادة في تخفيض إنفاقها على المحروقات والسيارات وغيرها من أوجه النفقات التشغيلية، بل على العكس؛ يبدو أن الحكومة تنصلت من كل وعودها بتخفيض الإنفاق التفاخري الذي يندرج تحت بند النفقات التشغيلية.
بالأرقام، ارتفعت قيمة النفقات التشغيلية للعام الحالي بمقدار 24 مليون دينار، لتبلغ نحو 292 مليون دينار، مقارنة بحوالي 268 مليون دينار للعام الماضي 2014.
الـ24 مليونا كرقم مطلق لا تعني شيئا، مقارنة بحجم الموازنة العامة التي تزيد على 8 مليارات دينار، بيد أنها رسالة مهمة تؤكد عدم جدية الحكومة في تطبيق مبدأ شد الأحزمة، ليس على جيب المواطن فحسب، بل على المال العام، وتوجيه إنفاقه بالشكل السليم.
والمشكلة أن هذه الزيادة تأتي بعد المدونة التي أقرتها حكومة د. عبدالله النسور، وقضت بضرورة تخفيض النفقات التشغيلية. ما يعني، بالنتيجة، أمرا واحدا، هو أن عقلية إنفاق المال العام باتجاه الحفاظ عليه من الهدر، لم تتغير رغم كل المعطيات؛ وأن هذا الهدف لا يغادر مربع الشعارات التي ترفعها الحكومات لدغدغة عواطف الأردنيين.
من ضمن الإجراءات التي لم تر النور مثلا، منع استخدام السيارات ذات الدفع الرباعي، وشطب السيارات التي يزيد حجم محركها على "3000 سي. سي"، وغيرها الكثير من القرارات التي حُفظت في الأدراج، ولو إلى حين.
علاوة على ذلك، تبرز مشكلة أخرى في الموازنة العامة. إذ رغم كل الحديث عن تطوير التعليم العالي والارتقاء بمستواه، نرى أن حجم الدعم المقدم للجامعات، بموجب موازنة العام 2015، استقر عند قيمة 57 مليون دينار. وقد كان الأجدى، بداهة، والأنفع للشباب والمؤسسات التعليمية، وللبلد ككل بالمحصلة، تثبيت قيمة النفقات التشغيلية عند مستواها للعام الماضي، وتوجيه الزيادة التي لحقتها في العام الحالي (24 مليون دينار) نحو دعم الجامعات.
القصة الأخرى التي يلزم التوقف عندها مجددا هي حجم النفقات الجارية التي زادت بمقدار 193 مليون دينار للعام 2015، لتبلغ 6.922 مليار دينار، مقارنة بحوالي 6.729 مليار دينار في العام الماضي 2014. إذ كما هو واضح، ما يزال هذا البند يتصاعد عاما بعد عام، بخلاف ما هو مطلوب من أجل المضي بخطوة حقيقية على صعيد الإصلاح المالي المنشود. فحجم هذه النفقات الذي يشكل نسبة 85.4 % من الموازنة العامة، ضخم جدا؛ بما يكشف ضعف المرونة في الاقتصاد الوطني، كما يعد تهديدا خطيرا جدا للاستقرار المالي وقدرة الاقتصاد على تحقيق معدلات نمو مريحة.
القفزات الكبيرة في هذا البند تحديدا جاءت عقب إعادة هيكلة الرواتب، والتي أخطأت الحكومات السابقة في تقدير كلفها؛ إذ قدرتها مع بدء التنفيذ بحوالي 82 مليون دينار، لكن كلفتها الحقيقية على الموازنة العامة بلغت حوالي 400 مليون دينار، أضيفت إلى فاتورة الرواتب. وليتها كانت خطوة أنهت التشوهات الموجودة في سلم رواتب القطاع العام، بل على العكس؛ فقد كرستها، وفشلت في تحقيق العدالة بين العاملين في هذا القطاع، بما فاقم الفجوة بين الموظفين.
بعد سنوات من الحديث عن الإصلاح المالي، ما تزال التشوهات تتزايد. والسبب الأهم لذلك أنه ما تزال إرادة المضي في إحداث المطلوب متواضعة، إن لم تكن غائبة، رغم خطورة تأجيل الإصلاح المنشود.