حين دعوت قبل يومين في هذه الزاوية الى ضرورة الخروج من "مختبر "
التاريخ ، كنت احاول ان استبق الردود على كلمة رئيس الوزراء في المؤتمر الذي عقده
مركز القدس في عمان حول "مواجهة التطرف” ،لكن البيان الذي اصدره بعض السادة
النواب وما ورد فيه من انتقادات ، دفعني للعودة الى توضيح المسألة بشكل مباشر.
ثلاث قضايا تطرق لها الرئيس في كلمته وشكلت مجالا للنقاش العام ،
الاولى طبيعة الدولة الاردنية : هل هي دينية ام مدنية(ديمقراطية)، والثانية جذور
الفكر المتطرف في تاريخنا الاسلامي، والثالثة حادثة القتل التي تعرض لها ثلاثة من
المسلمين في امريكا ( اختان من الاردن وزوج احداهما من سوريا).
السؤال : اين اخطأ الرئيس واين اصاب؟ لكن قبل ان اجيب اعتقد ان ما
قاله الرجل يجب ان يخضع للنقاش العام لا للمزايدات السياسية ، وان نتعامل معه
بمنطق الشافعي رحمه الله " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا يحتمل الصواب” ،
فالرجل اجتهد سياسيا: اذا اصاب فله اجران واذا اخطأ فله اجر واحد ، وذلك يكفي.
فيما يتعلق بالدولة اعتقد ان الرئيس اصاب ، فالدولة الاردنية ليست
دولية دينية ولا دولة علمانية وانما هي دولة "مدنية " ، وحتى في الاسلام لا
يوجد دولة دينية (ثيوقراطية ) يتولى الحكم فيها فقهاء الدين او رجالاته ،
وانما هنالك دولة مدنية تستمد تشريعاتها وقيمها من الاسلام ، هذا كلام ليس جديدا
البتة ، ومع الاحترام لكل الذين يريدون ايهامنا بأنهم اكتشفوا العجلة
، فان كبار فقهائنا المعاصرين اتفقوا على ان الدولة في الاسلام لا تقوم على الحق
الالهي، قال ابو بكر في خطبته الاولى بعد الخلافة: اني وليت عليكم ولست
بخيركم ، فان رأيتموني على حق فأعينوني وان رأيتموني على باطل فقوّموني.. ،
كما انها دولة ديمقراطية تستمد قوانينها لا سلطتها من شرع الله ،
وتستفيد من قوانين الغير متى احتاجت لذلك ، ولا يوجد في الاسلام شكل محدد للحكم ،
وانما ثمة قيم تحكمه وللناس ان يجتهدوا في اختيار هذا الشكل ، وفي اختيار
من يحكمهم سواء باليبعة او الانتخاب او الاختيار ، والحكمة في ذلك كله هي المصلحة
العامة فحيثما وجدت المصلحة (مصلحة الناس ومصلحة الامة ) فثم شرع الله.
اما فيما يتعلق بجذور الفكر المتطرف في تجربتنا التاريخية فاعتقد ان
الرئيس اصاب واخطأ معا، اصاب في بعض المضامين والسرديات والروايات التاريخية التي
قدمها ، واخطأ في انتزاعها و "اجتزائها” من سياقها التاريخي العام ، كما اخطأ في
تغييب الوجه الآخر المشرق من تاريخنا الحضاري العربي والاسلامي ، وهو ملئ بالوقائع
الصحيحة التي يمكن الاستشهاد بها ، واخطأ ايضا في اختيار التوقيت لان ما ينتظره
الجمهور من السياسي (دعك من المثقف) هو الدفاع عن صورة الاسلام التي تتعرض الان
لحملة بشعة من التشكيك ، سواء على يد ابنائه او اعدائه، وهو هنا دفاع مشروع لان ما
يحدث من تطرف في عالمنا العربي لا علاقة له بالاسلام ولا بالفكر الاسلامي ولا بالتاريخ
ايضا، وبقدر ما نتحمل نحن مسؤوليتنا كعرب ومسلمين فان الاخر ساهم فيه ايضا ،
والادانة يجب ان تتوجه للطرفين معا.
في قضية التاريخ التي سبق واشرت اليها لدي ملاحظتان :الاولى ان
تجربتنا التاريخية ، مثل غيرنا من الامم، فيها صورتان : احداهما مشرقة افرزتها
حركة المجتمع حين اقترب من الدين وتحرر من الظلم والاستبداد والخوف، والاخرى
رمادية عكستها مراحل تراوحت بين استحواذ السلطة على امور الناس وبين مواجهة الآخر
الذي استهدف بنيان الامة، اما الملاحظة الاخرى فهي ان التطرف فعل انتسب منذ
بداية الخلق للانسان لا الاديان ( قصة قابيل وهابيل)،و تمدد بفعل الصراع على
السياسة والحكم وليس على تخوم الاختلاف الفكري والفقهي والمذهبي، واذا كان الخوارج
عنوانا لهذا التطرف فان ما فعلوه يحسب على تجربة الصراع من اجل السلطة لا على
تجربة الصراع على الدين، واذا اتفقنا على ذلك فان حظ امتنا من التطرف لا
يعادل جزءا بسيطا مما ارتكبه غيرنا ، بل ان صفحات التطرف في تاريخنا مقارنة
بالصفحات المشرقة التي انتجتها حضارتنا لا تكاد تذكر، زد على ذلك ان اقحام
الفكر التاريخي وحده في المشهد واعتباره المصدر الاساسي لانتاج التطرف (لاحظ
ان الظلم والعدوان هما المسؤولان دائما عن انتاج التطرف ) مسألة تستوجب
التصحيح واعادة النظر.
اما فيما يتعلق بجريمة القتل التي تعرض لها ثلاثة من العرب والمسلمين
في امريكا فاعتقد ان الرئيس استعجل في توجيه الادانة وتحديد المسؤول عن
الجريمة ، ذلك ان التحقيقات حتى الان لم تكشف عن اسباب الجريمة ، كما ان
اقحامها في الحديث عن التطرف لم يكن موفقا ، كان يمكن بالطبع ان تأتي
الادانة في سياق ادانة الارهاب الذي لا دين له ، او في سياق المطالبة بمحاكمة
المجرم التي ارتكبها والتحذير من الكراهية التي تجتاح العالم كله بسبب هذا التطرف
الذي لا يمارسه المحسوبون على الاسلام فقط ، وانما غيرهم ايضا.