لن يخوض الأردن حربا برية ضد القوى الإرهابية في العراق وسورية. أكد ذلك غير مرة. لكن القضية تعود إلى مقدم السجال العام ما إن تلبث تتراجع. من هنا تبرز مشروعية التساؤل عن دوافع إحياء هذا النقاش كلما حسمته التأكيدات الرسمية، وضرورة تحليل الأسباب التي تثبت صدقية القول الأردني في هذا السياق.
كان التساؤل حول مساحة التحرك الأردني ضد عصابة داعش منطقيا عندما أعلنت الدولة انضمامها إلى التحالف العربي الدولي لتدميرها. لكن تلك المنطقية تلاشت بعدما جاء توضيح الدولة لحدود دورها صريحا مباشرا.
وبعد اغتيال القوى الإرهابية للشهيد البطل معاذ الكساسبة، أوضح الأردن أنه سيأخذ حق ابنه وسيستمر في محاربة الخطر الذي يمثله الإرهاب الداعشي عبر عمليات عسكرية مدروسة لا تشمل حربا برية.
صدقية التأكيد الأردني لا تأتي من وضوحه ومباشرته فقط. فهي تأتي أيضا من الحرفية التاريخية المثبتة للسياسة الأردنية وحكمتها وابتعادها عن أي تصرفات مغامرة غير محسوبة العواقب.
دخل الأردن الحرب ضد الإرهاب حماية لأمنه واستقراره ودفاعا عن عقيدته. وجاء دوره مدروسا يبعد الخطر عن حدوده أولوية أولى، ويسهم مع حلفائه في تحرير المنطقة من قوى الظلام التي لا تقف همجيتها عند حد.
تحقيق هذه الأهداف لا يتطلب حربا برية يخوضها الأردن. جيشه العربي منتشر على حدوده يحميها بكفاءة واقتدار وبمساحات التحرك التي يقررها لدرء أي خطر محتمل على الأردن. ما بعد الحدود في العراق ساحة تدير الحرب فيها القوى العسكرية العراقية بإسناد دولي يقدم الغطاء الجوي والتسليح والتدريب.
وفي سورية لا يتحدث أحد الآن عن حرب برية لغياب الشروط الموضوعية التي تبررها أو تتيحها. المجهود العسكري العربي الدولي هناك حدوده ضرب داعش جويا وتدريب قواتٍ معارضة ترفض داعش ودماريتها. وفي غياب أفق سياسي يرسم خريطة طريق واضحة لحل الأزمة، لا يبدو التدخل البري خيارا للتحالف الدولي.
من نافل القول إذن أن الأردن ليس بصدد الدخول في حرب برية. لا الظروف الموضوعية تتطلبها ولا مصالحه الوطنية حتى اللحظة تستدعيها. والحقائق البائنة تشير إلى أن الأردن سيستمر في استراتيجيته الحالية، يقصف قوى الإرهاب جويا، ويحمي حدوده وأمنه بالسبل العسكرية التي تقررها قيادة جيشه المحترفة.
لماذا إذن اللعب على وتر الحرب البرية وما تثيره من مخاوف؟
إنْ كان الهدف محاولة ضرب التماسك الأردني وثني الدولة عن التزامها مبادئها خوض الحرب على الإرهاب ضرورة تفرضها مصالحها الوطنية العليا فالأيام الماضية أثبتت عبثية هذا الكيد.
ذاك أن الاقتناع بهمجية العصابات الداعشية وخطرها على البلد وأمنه وقيمه تكرس بعد أن سقطت كل أقنعتها وظهر وجهها اللاإنساني بكل قباحته وشروره.
وكذلك تجلت صلابة الأردنيين ومتانة قيمهم وتلاحمهم والتفافهم حول دولتهم وملكهم بعد المصاب في الشهيد معاذ الكساسبة مشهدا وطنيا قهر المتربصين، وأدهش كل من تابع وقفتهم صفا واحدا، شعبا وقيادة، خلف وطنهم وحق ابنهم، وضد الإرهاب وعصاباته.
في اللحظة الصعبة، برز المعدن الأردني المجبول وعيا وانتماءً. تراجعت الأصوات المشككة بأن الحرب على الإرهاب حربنا. وظهرت قوة التلاحم الوطني والثقة بالدولة شعبا ومؤسسات وملكا.
هذا التلاحم ليس طارئا آنيا. هو قيمة أردنية تتبدى كلما امتُحِن البلد. وكذلك الحكمة في إدارة سبل التصدي للتحديات ثابت أردني يجسده جلالة الملك، ويضمن أن كل ما هو آتٍ من قرارات في الحرب الضرورة على الإرهاب سيكون مدروساً موثوقةً ملاءمته لمصالح الوطن، لا مغامرتية فيه أو تهور.
كل هذا يجعل من الحديث عن حرب برية شطحا غير ضروري، أو عبثا ستخيب أهدافه في خلق بعبع وهمي لتصديع التماسك الوطني.