لقد انطفأت الأنوار وأنزلت الأستار على دولة فرنسا، هذه الدولة الاستعمارية العتيدة وهي تحشد الحشود، من أجل تأييد رغبة أردوغان العدوانية في إقامة مناطق عازلة على الحدود السورية.
وفي هذا الصدد قال صعلوك الإليزيه هولاند: ''فكرنا في كيفية العمل مع تركيا من أجل إنشاء مناطق حظر طيران وتقديم الدعم والإمدادات إلى ''المعارضة المعتدلة'' في سورية''.
موقف الرئيس الفرنسي حول دعمه لما تسعى إليه تركيا بشأن المنطقة العازلة، ليس بجديد، فهولاند ما انفك يدعم الإرهاب جهاراً نهاراً ويسلحه ويساهم في كل ما من شأنه إراقة الدم السوري وزيادة رقعة الدمار في سورية.
وقد بدا الأمر كمزاد تفوح منه رائحة الخيانة والعمالة، مزاد من أجل حفلة دم مجنونة تسلية للراقصين من ميليشيا الدواعش وجبهة النصرة وأخواتها الإرهابيات على جثث الضحايا الأبرياء السوريين والمدعومين من قوى التآمر والتخريب.
وعلى نهج هولاند فرنسا، سار وزير خارجيته لوران فابيوس، ودعا التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش الإرهابي إلى التدخل بشكل مباشر لإنقاذ التنظيمات الإرهابية في حلب. وقال فابيوس، ''إنه بعد عين العرب يجب إنقاذ حلب حسب وصفه، داعياً إلى مساندة ما أسماها المعارضة المعتدلة والتي تواجه خطر الهزيمة والقضاء عليها في حلب''.
وتأتي مواقف فابيوس بعد أن كان فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي الأقل شعبية في تاريخ الجمهورية الفرنسية وفق أحدث استطلاعات الرأي وخلال مؤتمر صحفي مشترك يوم الجمعة الماضي في باريس مع شريكه بدعم الإرهاب في سورية رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان واصل سياساته الداعمة للإرهاب في سورية، مجدداً دعوته إلى دعم الإرهابيين فيها متلطياً خلف مسمى معارضة معتدلة وذلك التزاماً منه بسياسة سيده الأمريكي باراك أوباما الذي صنف الإرهاب بين جيد يجب دعمه وسيىء تجب محاربته .
من جهتنا، لا نستغرب أن تتخذ فرنسا الامبريالية الاستعمارية الغربية هذا المنحى المشين، فماضيها يزكيها وتاريخها حافل بالشواهد والأدلة على هذا الحضيض الأخلاقي لسياساتها، ومما يضاعف هذا الانحطاط السلوكي والانحدار الأخلاقي أنه يوظف نفسه دائماً كخادم مطيع وعبد ذليل لكيان الاحتلال الصهيوني الذي غرسوه خنجراً مسموماً في خاصرة الجسد العربي، كيان خارج القانون الدولي والشرائع الدولية، وخارج الأعراف والأخلاق، كيان مَنبَت الرذائل والعهر السياسي وغير السياسي، ومخزن الدسائس والمؤامرات، ومنبع للفتن والأكاذيب ضد المنطقة وشعوبها، وفي ذلك لا نجد مثقال ذرة من تَجنٍّ.
ولما كانت الضرورات الاستعمارية تفرض بقاءه لتلويث المنطقة به، كان من الضروري أن تمهد المنطقة وتصاغ خريطتها ليكون قادراً على نفث كل الموبقات والشرور والفتن الطائفية والتشاحن السياسي، وليكون بلطجياً على المنطقة، ولذلك وجب قطع رأس كل دولة تعترض على سياسات هذا الكيان المحتل وترفض قذاراته، فكان العراق أولى الدول العربية يدفع ثمن رفضه هذا الاحتلال وقذارته، وثمن تمسكه بالقيم وبالعزة والكرامة وبنصرة الشعب الفلسطيني، لتأتي فيما بعد المقصلة على رؤوس كل رافض، فتبعت ليبيا العراق، ويراد أن تتبع سوريا العراق وليبيا، ومن ثم مصر تتبع العراق وليبيا وسوريا، في متوالية لا تتوقف إلا برؤية المشروع الصهيو ـ أميركي المسمى ''الشرق الأوسط الكبير''.
فهولاند ووزير خارجيته فابيوس جعلا من السياسة الفرنسية ذيلاً للسياسة الأمريكية وتابعاً صغيراً لها، بل إن فابيوس حوّل ''الكي دوسيه'' إلى دائرة من دوائر الخارجية الأمريكية تأتمر بأمرها وتنصاع أيضاً لما يأتيها من الخارجية الإسرائيلية، وبذلك تقزّمت فرنسا وغدت لعبة في يد الدوائر الصهيوـ أمريكية وأداة تخدم مشروعاتها ولا تخدم المصالح الوطنية للفرنسيين الذين باتوا يشعرون بتراجع الدور العالمي لفرنسا وهبوطهم من مستوى الدول العظمى إلى الدول ذات التأثير العادي في المشهد الدولي الراهن...
ففي الوقت الذي تدعم حكومة هولاند الإرهابيين في سورية بكل أنواع الدعم، دفعت في السابق بقواتها إلى مالي في أعماق إفريقيا لمحاربة الإرهاب هناك لقاء وضع يدها على مكامن الثروة من اليورانيوم والمعادن الثمينة، وفتح باب الحروب الداخلية التي تستجرّ بيع الأسلحة الفرنسية لكل الأطراف المتصارعة، وسمحت لها واشنطن نتيجة خدماتها للسياسة الأمريكية بأن تعقد صفقات التسلح الكبرى مع دول الخليج ولاسيما السعودية بالمليارات، إذ جرى الاتفاق مع الرياض في زيارة هولاند الأخيرة إلى المملكة على عقد صفقة بـ25 مليار يورو لتسليح الجيش السعودي، وأحيلت الهبة السعودية ذات المليارات الثلاثة لتسليح الجيش اللبناني إلى فرنسا إضافة إلى حصول هولاند على مليار دولار أثناء الزيارة تنطوي على رشوة له لوقوف فرنسا في وجه الفيتو الروسي والصيني والاستمرار في دعم المعارضة السورية العميلة للسعودية.
في زمن ربيع المسخ العربي، نصّب هولاند فرنسا، نفسه متحدثاً بالشرعية وعلى الطريقة الأمريكية واللا شرعية في سورية، ووضع بكل استفزاز نفسه قيماً يعطي الشرعية في البقاء لمن يريد، ويسحبها عمن يريد، دون اعتبار لخيارات الشعوب وكرامتها، متناسياً أن الشعب السوري هو صاحب الكلمة الفصل في تحديد شرعية من يحكمه، وليس أحد آخر يعمل خدمة لأهداف تصب أولاً وأخيراً في مصلحة الكيان العنصري الصهيوني الإلغائي والقوى الامبريالية العدوانية الأخرى في الولايات المتحدة وقوى الغرب الأخرى.
إن فرنسا هولاند، بموقفها من الأحداث في سورية لا تفعل شيئاً أكثر من إظهار وجهها الاستعماري، متنكرة لمبادىء ثورتها الأولى التي داعبت أحلام البشر في كل مكان تقريباً، والتي قامت في عام 1798 بشعاراتها البراقة في الحرية والمساواة والعدالة لتنشر القمع والظلم والعدوان في كل مكان حلت فيه، ولو اختلفت التسمية والمبررات كترجمة لفهمها لقضية الحرية والعدالة والمساواة، ففرنسا ذات التاريخ العريق بالعدوان والظلم والتدخل بشؤون الشعوب، هي فرنسا الراهنة في تدخلاتها في تشاد والعراق ولبنان وليبيا واليمن وساحل العاج ومالي... و... و... وغيرها الكثير من دول العالم!
فرنسا سايكس ـ بيكو وسان ريمو، والعدوان الثلاثي، وحصار لبنان وغزوه إبان الاجتياح الصهيوني عام 1982، والحرب على العراق عام 1991 وحصار شعبه، ذلك هو وجه فرنسا التي تتحدث عن القيم الإنسانية وحقوق الشعوب، بينما تمارس ولا تزال العدوان والاعتداء ودعم الديكتاتوريات الحليفة لها في إذلال شعوبها. فهل يحق لباريس بعدها أن تتحدث عن شرعية نظام أو حرية شعب ...؟!
إن ذاكرتنا الوطنية، سواء أكانت فردية أم جماعية، تفيض ليس بعشرات الأمثلة بل بالمئات عن ممارسات الغرب بعامة وفرنسا وديمقراطيتها التي تتيح الاعتداء على الشعوب، سبق لها أن أقرت قانون غيسو لعام 1995 الذي يحاكم بموجبه أي فرنسي يعبر عن رأي لا ينسجم ولا يتفق مع أكذوبة ''الهولوكوست'' والمحرقة، ذلك القانون الذي حوكم بموجبه الكثير من الفرنسيين، وربما كان أشهرهم المفكر الشهير ـ روجيه غارودي ـ فقط لأنه شكك بعدد اليهود الذين طالتهم تلك المحرقة الأكذوبة التي لا يزال العالم الغربي، يخضع بسطوتها لابتزاز الحركة الصهيونية العالمية. كل شيء يدل على مكر وحقد هولاند، ومساعده الصهيوني لوران فابيوس في هذه الحرب الشرسة، وذلك أن الهدف التالي بعد سورية هو إيران البلد الآخر من البلدان غير الحليفة للغرب.
فهولاند فرنسا، يلوح اليوم بخطاب الحرب وفدرلة سورية، مجازفاً بالتضحية بسياسة فرنسا الخارجية كلها على مذبح استرضاء إسرائيل وتحت تأثير الدولارات القطرية والسعودية، ويستفيض فابيوس في الحديث عن الضحايا الأبرياء ولا تزال يداه ملطختين بدماء عشرات الفرنسيين في فضيحة الدم الملوث.
فهولاند، عندما تخلى عن العمل من أجل حل سياسي للأزمة السورية، وعندما ترك مصير سورية مرهوناً بمصير السلاح، فإن هذا السلاح هو الذي يحدد نهاية المعركة.
بالتالي أطلب من الشعب الفرنسي أن يطرح على نفسه السؤال التالي: من هو هولاند حتى يصدر أوامره ويتدخل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة وسيادية، بل يطلب من رئيسها الرحيل؟
لقد نسي هولاند أو تناسى، أن زمن الوصاية الفرنسية قد ولى. فأمريكا هي التي كلفت فرنسا ومنحتها تفويضاً جديداً غير رسمي، تفويضاً من باراك أوباما لتتصرف فرنسا وتتحدث بإسمه وبإسم الامبريالية الأنغلو ـ أمريكية.
في هذه المسألة ومنذ بداية ما أسموه بـ''الربيع العربي''، لم تتوقف واشنطن لحظة عن إحاكة الدسائس والمؤامرات ضد دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أنها تفادت الوقوف في مقدمة المشهد، في محاولة منها للحفاظ على صورتها لدى الرأي العام بخاصة فيما يخص التدخل العسكري، وهذا ما دفعها إلى إيداع هذا الدور إلى ساركوزي، ومن ثم خلفه هولاند.
إن فرنسا تتعامل مع الحركات التكفيرية الوهابية من منطلق براغماتي، يتناغم مع الموقف الأمريكي لحد ما، والتفهم الذي تبديه فرنسا، ومعها الولايات المتحدة، لبروز التيار الإسلامي التكفيري في إطار ما عرف بالربيع العربي، بل وتشجيع عديد من الحركات التكفيرية الوهابية المتطرفة للوصول إلى الحكم، يُفصح عن رغبة فرنسية غربية للتعامل مع الحراك الذي فوجىء به الغرب، وبشكل يتيح للغرب أن يسهم في توجيه هذه الحراك، والمشاركة في قطف ثماره، وحرف مساره، ذلك أن العداء للسياسات الغربية كان، كما رفض الأنظمة الاستبدادية الموالية للغرب، سبباً رئيسياً في هذا الحراك.
إن عقدة هولاند فرنسا، كما يتفهمه المواطن العربي السوري الذي اطلع على تاريخ بلده أيام الاستعمار، تقارب عقدة ما كان يرمي إليه أعضاء منظمة الجيش الفرنسي الذين قاوموا الرئيس دوغول في حينه وفي اعتقادهم أن سورية كما أريد للجزائر أن تبقى جزءاً من الأراضي الفرنسية كذلك أن تبقى سورية في دائرة الحلم الفرنسي أيام الانتداب في القرن الماضي حتى يوم الاستقلال في عام 1946.
هذه العقدة التي تسيّر القيادة الفرنسية في الوقت الراهن لا يريد الرئيس هولاند التخلص منها معتمداً في ذلك على حلفاء له سواء في المنطقة أو في أوروبا، لاعتبارات تتعلق بمرض العنجهية المصاب به هو وفريق عمله في رحاب قصر الإليزيه.
ولا يغرنك أنه يعيش بين الحين والآخر، حالة رومانسية من خلالها يسعى إلى تلميع صورته أمام الرأي العام في بلده وخارج بلده بأنه حقاً صاحب مشاعر إنسانية، وهو يعلم، بينه وبين نفسه، أنه بعيد عن مثل هذه المشاعر بمحاربته الحق ودفاعه عن الباطل.
في تقديري، اليوم يتعالى النعيق الفرنسي وذلك راجع إلى أن فرنسا ذات التاريخ الاستعماري الطويل في المنطقة تريد أن تكون جزءاً من المشروع الصهيو ـ أميركي الهادف إلى تقسيم المنطقة على أساس الثروات، عبر الجعجعة الإعلامية ونعيق البوم الذي تحدثه لضمان ـ كما تتوهم ـ حصة من كعكة الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة بالسواحل السورية، وجزءاً من مشروع محاصرة كل من روسيا والصين وإيران، من خلال المخطط القائم بتحويل سوريا إلى أرض عبور لأنابيب الغاز عبر تركيا ثم إلى أوروبا، وبالتالي تهميش روسيا وخلع إحدى أوراق قوتها ألا وهي ورقة الغاز الذي تمد به أوروبا، مما سيترتب عليه إبعاد الدب الروسي من المناطق الدافئة، كما ستكون الصين خارج المنطقة وفق هذا المخطط. أما الدولة السورية فلن تتهيب كل هذه الإيقاعات العنيفة، وستبقى واقفة أمام مثل هذه الاستعراضات المسرحية الدموية والقبيحة، فسورية لن ترتجف كما يتهيأ لهم، ولن تخالف قناعاتها المثبتة، ولن تتنكر للحقائق التي جمعتها على امتداد شهور الأزمة، وسوف تبني على أساس ذلك موقفها، ذلك أن هذا الموقف هو وحده الكفيل بحماية شعبها.
إن قدر سورية عبر تاريخها أن تكون المدافعة عن الكرامة والعزة في الفضاء القومي والإقليمي، والمدافعة عن الحقوق العربية، سواء رضي عنها الغرب بنزعاته الاستعمارية أم لا.