يصعّد ساسة إسرائيل، في الآونة الأخيرة، هجومهم على الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، ويتهمونه بأنه وراء تصعيد المواجهات والهبّات الجماهيرية في القدس المحتلة، بفعل "خطاب التحريض الذي يطلقه". ويسارع خصوم عباس، في الساحتين الفلسطينية والعربية، إلى طرح نظرية المؤامرة، وكأن الرئيس الفلسطيني يربح شعبيا من هذا الهجوم الإسرائيلي، بعد أن كان منهم مَن امتدح خطوات استراتيجية قادها أبو مازن في الأمم المتحدة.
لكن حينما نرى ساسة المؤسسة الإسرائيلية والصهيونية ينتظمون في جوقة لا تتوقف يوميا، فإن علينا البحث في الخلفية والتوقيت. فنحن لسنا في فترة انتخابات رئاسية، وحتى حالة الانقسام باتت منتهية، على الأقل ظاهريا. ولهذا، فإن للمؤسسة الإسرائيلية أهدافا أخرى، عدا الهدف التقليدي المتمثل في القول إنه "لا يوجد شريك فلسطيني للسلام".
في السنوات الأخيرة للرئيس الراحل ياسر عرفات، اختلقت المؤسسة الإسرائيلية، أمام الرأي العام لديها كما للحلبة الدولية، صورة أخرى لأبو مازن؛ تستطيع معه إسرائيل التوصل إلى أي اتفاق تريده في غضون وقت قصير، لربما يكون بضعة أشهر. وكان في هذا أيضا مادّة غنية لخصوم أبو مازن على الساحة الفلسطينية؛ إذ "نجح" عباس في غضون تسع سنوات تقريبا، في أن "يبيع فلسطين عن بكرة أبيها" نحو 99 مرّة، كما "باعها" من قبله ياسر عرفات ألف مرّة، قبل أن يزفه من خوّنه شهيدا! وأذكر هذا ليس من باب الدفاع عن عرفات أو أبو مازن، فلي كغيري انتقادات على جوانب من نهجهما، لكن الخطورة حينما يصل خطاب الخصوم، على الساحتين الفلسطينية والعربية، الى درجة التخوين.
تورطت المؤسسة الإسرائيلية وماكينة دعايتها لاحقا بأبو مازن. فهو وصل إلى الرئاسة، ولم يوقّع على ما تريده إسرائيل. وطالما يهاجمه ساسة إسرائيل والحركة الصهيونية، بأنه لم يقبل حتى بما يسمونه "العرض السخي" الذي قدمه له رئيس الوزراء حينها إيهود أولمرت، تماما كما كان "الاتهام" ذاته لياسر عرفات الذي لم يقبل بعرض إيهود باراك "السخي" في كامب ديفيد العام 2000.
والحملة الإسرائيلية المنظمة ضد عباس، في هذه المرحلة وقبلها، تخاطب أيضا جهات ذات وزن في الحلبة الدولية، وخاصة أوروبا. والهدف الآني هو صد مسارين متزامنين: الحراك الفلسطيني في الأمم المتحدة، للحصول على مزيد من القرارات الداعمة للقرار السابق بالاعتراف بدولة فلسطين؛ وكذلك منع نشوء مسلسل اعترافات بالدولة الفلسطينية في أوروبا. ويمكن ملاحظة أن خطا واحدا يجمع خطابات الهجوم على الرئيس عباس، ابتداء من ذاك الذي يطلقه نتنياهو، وحتى آخر عضو كنيست في معسكر اليمين المتطرف، وأحيانا أيضا ضمن ما يسمى "اليمين المعتدل"، وهو دمغ أبو مازن بتهمة التحريض على ما يسمى بـ"الإرهاب".
وتحاول ماكينة الدعاية الصهيونية في هذه المرحلة دمغ النضال الفلسطيني الشرعي ضد الاحتلال وجرائمه، بإرهاب تنظيمات مثل "داعش" وغيره، على نحو ما فعلت في العام 2001، حينما حاولت دمغ النضال الفلسطيني بإرهاب تنظيم "القاعدة"، بعد تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام، في محاولة لاستغلال المخاوف الناشئة لدى شعوب العالم، وخاصة أوروبا، مما يجري في الشرق الأوسط، وردع تلك الشعوب عن مناصرة الشعب الفلسطيني في قضيته.
باعتقادي أنه يخطئ من يستخف بالحراك الفلسطيني في الأمم المتحدة، وبالقرارات الصادرة في أوروبا. فهما حقا لن يأتيا بالدولة الفلسطينية مباشرة على الأرض، وتبقى القرارات رمزية، أو أكثر بقليل، من مثل وضع "فلسطين" الدولة على قائمة دول العالم، مع أنه قرار ضروري ومردوده أكثر من معنوي؛ كما تدرك إسرائيل جيدا. لكن، وكما ذكر هنا في مقالات سابقة، فإن ما يقلق إسرائيل أيضا، انعكاس مثل هذه القرارات الدولية على الرأي العام في الدول المركزية في العالم، ليعيد اهتمامه بالقضية الفلسطينية، ويخلق حالة أوسع لمناهضة إسرائيل وسياستها، ما يساعد على نهج المقاطعة، وتشجيع الحكومات على النفور من إسرائيل، تمهيدا -كسيناريو افتراضي مستقبلي- لمقاطعة إسرائيل اقتصاديا وسياسيا.
من المحزن غرق بعضنا في الدعاية الإسرائيلية الصهيونية، وانجراره وراءها، واستغلالها لإثارة الخلافات في الساحة الفلسطينية، بما يخدم الأهداف الإسرائيلية. والمطلوب دائما البحث في خلفيات وعمق الخطاب الإسرائيلي، والبحث عن دوافعه لمواجهته، وليس تأويل الخطاب الإسرائيلي لشن الحرب ضد بعضنا بعضا، وكأنه تنقصنا جروح ونزيف وآلام!