من يراقب ويرصد التقارير والقراءات الأخيرة الصادرة عن مراكز الدراسات وفي المجلات الغربية، يجد فيها النتائج واضحة، وهي الأقرب إلى ما يحصل على أرض الواقع. وربما يكون من أفضل التقارير التي صدرت خلال الأسابيع القليلة الماضية، تقرير لمجلة "الإيكونوميست" بعنوان "لماذا تنهار دول ما بعد الاستعمار العربية؟". وأبرز ما في التقرير إشارته إلى أنّ الأزمات العربية الراهنة ليست على الحدود، بل هي في المركز، وفي مناهج الحكم وفشل التنمية، والعجز عن مواجهة التحديات.
أمس، قرأت مقالا في السياق نفسه لآرون ديفيد ميلر (في مجلة "السياسة الخارجية") بعنوان "ذوبان / انصهار الشرق الأوسط" (Middle East Meltdown)، يتحدث فيه عن الانهيار العام في الشرق الأوسط. إذ يرى الكاتب أنّ المنطقة بأسرها تغرق في حالة من الفوضى والتفكك، ليصل إلى القول بأنّ الإدارة الأميركية نفسها عالقة في حالة الفوضى هذه، بين مصالحها وحلفائها.
ربما هذه القناعات تذكّرنا بالمقابلة الشهيرة التي أجراها توماس فريدمان مع الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، وفيها سطر خطير، يعكس -ربما- نظرة غير معلنة للإدارة الأميركية نحو المنطقة. إذ قال أوباما: "ما نراه في الشرق الأوسط وأجزاء من شمال أفريقيا هو أمر يعود إلى نظام من الحرب العالمية الأولى بدأ يتفكك". وربما نضيف إلى تلك الخلاصة ما وصل إليه تقرير "الإيكونوميست" السابق، بأنّ الدولة القُطرية العربية التي تشكلت بعد الاستعمار (غداة الحرب العالمية الثانية) هي أيضاً في طور التفكّك.
في الخلاصة؛ ليس أمراً سهلاً على أيّ محلل أو سياسي، أو حتى مواطن عادي، أن يتفاءل بمستقبل المنطقة والمجتمعات العربية في ضوء المؤشرات والتطورات المأساوية الراهنة. فما تحمله الأيام المقبلة، إذا ما سارت الأمور على النحو الجاري، سيكون أكثر قتامة ورعباً مما هي عليه الحال اليوم؛ معالم حرب أهلية داخلية طاحنة، مشاهد من العنف الدموي غير المسبوق، لا يقتصر على تنظيم "داعش" بل يطاول الأنظمة السلطوية والقوى الطائفية الأخرى، وتوترات اجتماعية وسكانية وضغوط اقتصادية.
مثل هذه الوقائع والتطورات التي يغلّفها التشاؤم والقلق، تدفع إلى التساؤل عن الأسباب التي أدت إلى فشل انتفاضة الطبقة الوسطى العربية، وهي العنوان الحقيقي للثورات الديمقراطية التي قامت بها الطبقة الوسطى؛ سواء كان الأمر في مصر أو تونس أو سورية (في البداية)، أو حتى اليمن وغيرها من دول ومجتمعات؟
كانت تلك الانتفاضة فرصة حقيقية للمجتمعات العربية لتجد "مخرجاً" من السيناريو الراهن، الذي كانت تنبئ به الأحداث منذ أعوام طويلة، مع حالة الانسداد السياسي والضغوطات الاقتصادية وفشل المشروعات التنموية؛ فكل ذلك كان يؤذن بأنّنا أمام مسار متدحرج نحو دول ومجتمعات فاشلة، أو نحو "نقطة تحول" أوجدتها الانتفاضة السلمية الناجحة، التي قادتها الطبقة الوسطى، لكنّها ضاعت في الطريق لاحقاً، وانفجرت الأزمات المركبة والمكبوتة في وجهنا، سواء كانت ذات طابع هوياتي تاريخي أو حتى معاصر!
من قام بالانتفاضة السلمية في أغلب الدول العربية هم الشباب المتعلم الجامعي، والطبقة التكنوقراطية، أبناء الطبقة الوسطى التي كانت ما تزال تقاوم الاستسلام لليأس وللسيناريو البائس الراهن. لكن لا نعرف اليوم ماذا حلّ بهذه الطبقة في أماكن كثيرة؛ هل ندمت فعلاً على تلك الانتفاضة، كما أخبرني بعضهم في سورية؟ أم أنّها دفعت ثمناً غالياً، كما هي الحال في مصر؟ أم دخلت في لعبة الاستقطاب والتجاذب، كما هي الحال في دول أخرى؟! وهل يمكنها الانتفاض مرّة أخرى لتصحيح المسار، أم أنّ القطار فات فعلاً؟!