أخبار البلد - خاص - خالد أبو الخير 

غرس في نفوس الناس روح العروبة وافكار الوحدة، وكان عروبيا وقومي الجذور واردني الهوية 

كبير في سعة أفقه وصيته وخلقه الكريم ودوره في بناء البلد الذي عشقه وتوسد ترابه للأبد. 

صالح عيسى المعشر ، من رجالات الأردن الذين لا يمكن الوقوف أمام قاماتهم العالية، وقوفاً عابراً، ومثله حري بتذكر وعظة لمن أراد أن يذكر. 

تحدر من السلط، واستمد من شموخ قممها شموخاً وذرى، حتى أن المتتبع لخطاه يحتاج إذا أنصف، إلى أرجل مارد.. 

التصق لقب المعشر بفرع من عائلة الدبابنة، نسبة الى "دبين" ، وأصل التسمية لأن جدهم كان في الزمن العثماني ممن يقدرون ضريبة العشر، وفق رواية، فيما يروي روكس بن زائد العزيزي ان التسمية أطلقت على جدهم، لأنه كان ضخم الجثة. 

والدبابنة عموماً يتحدرون من ال الخازن، شيوخ كسروان بلبنان. 

تذكر سجلات أن صالح المعشر ولد عام 1906، وكبر وترعرع في دفء الأسرة ومرابع السلط التي عشق ترابها، شب طموحاً وصاحب فكر ورؤية ومشبعاً بالقومية، مدافعاً عنها وذائدا ما استطاع إلى ذلك سبيلا. 

تنقل بين السلط والقدس وبيروت في صباه وشبابه الباكرين، فقد درس أولا في المدرسة الانجيلية ، وأرسله والده إلى زهرة المدائن ليكمل دراسته، وهناك نمى حسه الوطني على وقع الخطب الحماسية في مقاومة وعد بلفور والانتداب البريطاني.. وبعدها حملته رياح طلب المعرفة إلى مدرسة سوق الغرب في ست الدنيا، ثم في الجامعة الأميريكية التي انتظم بها لدراسة الاقتصاد.. 

وما بين وادي شعيب إلى جبل الزيتون، فقاسيون..وما تركه الثلج وصاغته النسائم على أهداب حرمون.. جاشت نفسه وقلبه الفتي بحب سوريا ، على كبرها وبارق مجدها التليد، وكبر الأخطار والمؤامرات التي حاقت بها.. ووعى تلك الأخطار، وتصدى لها. 

انطلاقة الفتى السلطي التي لا تحد، كبحها خبر وفاة والده المفاجئة، فقطع دراسته المفاجئة وعاد الى السلط ليعتني بالعائلة. 

شمر صالح المعشر عن ساعديه وعمل في الزراعة والتجارة، وأدار شؤون العائلة، ووفر الفرصة لاشقائه إلياس، ، يوسف ، جميل ، سعيد وسعد لإكمال تعليمهم الجامعي الذي حرم منه. وهو القائل: (العلم ضرورة ليس لغاية المعرفة فحسب، بل لتكوين شخصية الإنسان بحيث يكون أكثر عطاء لوطنه وأكثر صبرا وتحملا للتحديات التي تواجهه). 

النجاحات التي حققها في الميدان العملي، وخصوصا ادخاله زراعة الحمضيات الى الاغوار وتجفيف المستنقعات، والاحداث العاصفة في منطقة ما زالت تعصف بها الاحداث، وحسه الوطني وأفقه القومي، كل ذلك دفعه ليكون أحد الناشطين في كتلة الشباب الأردني التي تأسست عام 1938م وتبنت طروحات وأهداف وأفكار وشعارات الحركة الوطنية الأردنية المعارضة للوجود البريطاني في الأردن، واوصلته للترشح في الانتخابات النيابية ، فانتخب نائباً عام 1947، وهو ذات المنصب الذي حازه 3 مرات متلاحقة. 

كان رحمه الله خطيباً مفوهاً، رجلا عملياً مطلعاً ومثقفاً وصاحب برنامج، ليبرالياً وايمانه بالديمقراطية بلا حد. مبادئه دفعته للاستقالة من البرلمان إثر إعلان الأحكام العرفية. 

انتقل للاقامة في عمان عام 1941، وإن ظلت بينه وبين السلط صلات وصلات. 

و من أصدقائه ورفاق مسيرته النضالية: سليمان النابلسي ، عبد الحليم النمر، أنور الخطيب، شفيق إرشيدات،عبد القادر طاش، سليمان السُكر، عبد الرحيم الواكد وعبد الحليم العباس وغيرهم. 

ومن مواقفه المشهودة معارضته ورفاقه في الحزب العربي الأردني المعاهدة البريطانية الأردنية لسنة 1946م وفي اجتماع لقيادة الحزب قال المعشر: (ان الاستقلال الذي نالته البلاد بموجب هذه المعاهدة يعد استقلالا ناقصا حيث لا يزال القرار السياسي والعسكري بيد الانجليز وان ضباطنا يتحكم بهم قادة الكتائب الانجليز وان قائد الجيش هو الذي يدير مكاتب رئيس الوزراء). وفق الكاتب محمود سعد عبيدات. 

أججت أحداث فلسطين روحه الوثابة ، فانبرى يدعو الى الوقوف الى جانب اخواننا هناك بكل السبل والامكانيات، والمشاركة الفعلية في النضال ضد الصهاينة، واسهم شخصيا في ارسال الاسلحة اليهم. 

مواقفه تلك دفعت سلطات الانتداب البريطاني الى اتهامه بالتحريض ضد سياسة بريطانيا وضد الحكومة الأردنية المتعاونة مع المعتمد البريطاني، ووضعته تحت المراقبة. 

يعتبر "أبو رجائي" من مؤسسي الحزب الوطني الإشتراكي الذي شكل الحكومة عام 1956 اثر فوز منقطع النظير في الانتخابات، وعين وزيرا في حكومة سليمان النابلسي، وهي الحكومة التي أطلقت الحريات العامة ووقعت اتفاقية التضامن العربي وأنهت المعاهدة مع بريطانيا في العام الذي تلى. 

بعد سنوات.. عاد وزيرا عندما شكل المرحوم بهجت التلهوني حكومته في 19/ 4/ 1970م، إذ وقع عليه الاختيار ليستلم حقيبة الشؤون الاجتماعية، واستمر في ذات المنصب مضافا اليه وزارة العمل في حكومة عبد المنعم الرفاعي الثانية. 

بعد الوزارة اختير عضوا في مجلس الاعيان مرتين. 

وكما حقق النجاح في العمل العام حلّق وابدع في عمله الخاص، وكان يردد دائماً ان "الاقتصاد المزدهر عماد الدولة". وانطلقت مشروعاته الاقتصادية من رؤيته كاقتصادي متنور ووطني واحرزت نجاحاً . 

"صادق، أمين، مثقف، يعلي من قيمتي الشرف والنزاهة، يتفانى في عمله، متواضع دون كلف وبسيط بساطة النسيم في فضاءات البلقاء، ولا يستريح إلا إذا وثق من تحقيق الاهداف".. يجمع من عاصره على صفاته. 

ويضيف أحد معارفه انه (غرس في نفوس الناس روح العروبة وافكار الوحدة، وكان عروبيا وقومي الجذور واردني الهوية). 

يوم الأحد 26/ 8/ 1979م لاقى صالح المعشر وجه ربه، ودفن في مقبرة أم الحيران بعمان، وقد زار المغفور له الملك الحسين بن طلال بيت العزاء ووصف المرحوم صالح المعشر بقوله: «كان رجلاً عالي الهمة، كثير التواضع، طارحاً للتكلف». 

وانت.. أيها المار في ربوع السلط والبلقاء الأبية، أمعن النظر تلك الذرى، واستلهم الدرس، فقد أنجبت هذه الارض رجالاً انتموا بصدق الى وطنهم وامتهم، وحاولوا ما استطاعوا.. كان منهم صالح المعشر.