عندما يبقى الأطفال الجياع المحرومين دوما يحلمون بوجبة واحدة لذيذة فيها قطع من اللحم الأبيض وفي أحسن الأحلام اللحم الأحمر, يتأملونها عندما يشاهدونها على شاشات التلفزة مع الشيف رمزي أو قناة فتافيت, أو على صفحة من صفحات الجرائد أو كتب الطبخ وفنونه, فلا يكون من التأمل إلا سيلان اللعاب وسراب الأحلام, فلن تتحقق معجزة كما في أفلام الرسوم المتحركة لتخرج لهم هذه الأطعمة فجأة ليأكلوها فتكون حقيقة أمامهم ما داموا يشاهدون ويتأملون, ثم وبعد هذا الحرمان والأحلام فجأة وبدون سابق إنذار تتحقق لهم وجبة شهية فيها ما لذ وطاب من الطعام ما حلموا به وما لم يحلموا ..فجأة هم أمام هذه الوجبة الكبيرة وبعد طول حرمان سينقضّون انقضاضا على الطعام دون أدنى وعي ويأكلون بنهم وفجع لدرجة تنسيهم التلذذ بطعم ونكهة الطعام فتمتلئ البطون ويصابون بالتخمة وربما يستفرغون ما لم يتلذذون بطعمه وحلموا دوما به, عندها فقط ربما تكون الأحلام أفضل من الواقع الذي لم نحسن فيه الشعور بالمتعة التي لطالما حلمنا بها فأنساهم هذا الحرمان والجوع حاسة التذوق, وفرصة استغلال الموقف...
نعم, ما أن كُسر حاجز الخوف لدي الإنسان العربي بعد ثورتي تونس ومصر وليبيا الآن, حتى فاع الأردنيون من كل حدب وصوب مطالبين بالتغيير والإصلاح, لا شيء سواهما من خلال المظاهرات وتنفيذ الاعتصامات والإضرابات في كل مكان حتى طلبة المدارس كما نسمع باتوا يطالبون بالتغيير وإسقاط المدير, وهنا لا اعتراض بل ألف مرحى بجيل جديد لا يخاف ولا يخشى بطش أجهزة الدولة, نعم ألف مرحى بجيل بات يُقلقُ ويقضُّ مضاجع الحكام...ووداعا لجيل الهزائم والنكسات والنكبات لجيل كان يقول لأبنائه حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس, انتهى هذا إلى غير رجعة كما انتهت ثقافة الخوف والرعب... ولكن لا نريد أن نفسدَ أو نضيّعَ هذه اللحظة التاريخية في المطالبة المشروعة بالتغيير والإصلاح السياسي الحقيقي المبني على أسس واضحة ويمثل واقعية كل الأردنيين, ولذلك يلاحظ المراقبون لكل التحركات الشعبية والشبابية (مع التأكيد على عدم التشكيك بأي من هذه الحركات واحترامي لها جميعها) يلاحظون ولادة الكثير من الحركات تحت مسميات مختلفة من جايين أو رايحين وكلنا الأردن والأردن كلنا والملكية الدستورية والدستورية الملكية والجبهات والمبادرات المختلفة كلها تطالب بالإصلاح والتغيير غير المتناسق والمتناغم ولن نستبعد مثلا ظهور من يطالب بعودتنا لدستور الإدارة العثمانية, أو الانتداب البريطاني... فالمشكلة تكمن في طبيعة واختلاف المطالب وتناقضاتها...والتي تعكس صورة وواقع المجتمع الأردني بكل أطيافه وأمراضه الاجتماعية الموجودة, ولو افترضنا أن الملك أمر الحكومة بالاستجابة لهذه المطالب فأي الفرق والجبهات والحركات سيرضي, ثم أي هذه الحركات تمثل المجتمع الأردني وتلقى القبول لدى معظم الأردنيين..؟
قديما قالت العرب: إذا هبت رياحك فاغتنمها, فأي ظرف ووقت مناسب للتغيير والإصلاح السياسي كهذا الوقت..علينا كمجتمع أردني ومن كل القطاعات الشعبية الفاعلة أن ندعو لمؤتمر وطني تشارك فيه كل الفعاليات بدون استثناء, لتتفق على رؤية واضحة ومطالب مشروعة بيَّنة تحت مسمى جامع لكل القوى الوطنية وتحدد سقف المطالب من إصلاح سياسي حقيقي وفتح لكل ملفات الفساد القديمة والحديثة مع التأكيد على الوحدة الوطنية والهوية الأردنية ونظامه الملكي, وأن تلقى هذه المطالب قبولا جماهيريا, عندها فقط تتضح الأمور وتكون أكثر قوة و تأثيرا لأنها تحظى بدعم معظم الأردنيين, أما إذا ما بقى الأمر على حاله من ولادة حركات ومسميات في كل يوم وتشتت واضح في الجهود وغياب الرؤى والأهداف الواضحة والكل يغني على هواه فستضيع هذه الفرصة وسيدبَّ الوهن والضعف ويقل التأثير وتموت الدافعية عند المواطن الأردني فنعود كما كانوا يقولون: حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس.
rawwad2010@yahoo.com