أن «تسقط» مدينة كالموصل، بكل ما تمثله من «جغرافيا» وموقع استراتيجي وحساسية مذهبية، في قبضة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، يعني ان ثمّة خللاً خطيراً في بنية المؤسستين الأمنية والعسكرية العراقية، في الوقت ذاته الذي لا يمكن فيه التغاضي أو صرف النظر عن القوة التي باتت عليها دولة أبو بكر البغدادي، الذي يُبدي «جنده» شجاعة لافتة ويتوفرون على خطط عسكرية طموحة ولافتة تلحظ الإبقاء على خطوط تواصل جغرافي ولوجستي بين المدن والقصبات والقرى والبوادي التي تقع تحت هيمنتهم، على نحو يشي بأن ثمّة من يقدم لهم التسهيلات والمعلومات الأمنية، سواء عبر الاختراق الذي يحققونه في صفوف الدولة العراقية بمؤسساتها وتشكيلاتها المختلفة، أم في ما يَمّدها به المتضررون أو الرافضون أو المعارضون لحكومة نوري المالكي المنتهية ولايته، والذين يريدون بذل كل جهد ممكن للحؤول دون التجديد له لولاية ثالثة.
يصعب بالطبع استيعاب صدمة نتائج الهجمة الشرسة والمنسّقة التي شنّها مقاتلو «داعش» على مدينة الموصل، وتمكنّهم من اجتياح الجزء الجنوبي من المدينة ثم مواصلة الهجوم الكاسح، على نحو سمح لهم بالاستيلاء على مطار المدينة وما تبقى من احيائها الشمالية ما يعيد إلى الأذهان المصير الذي آلت إليه مدينة الفلوجة على نحو خاص، وما يجري في محافظة الأنبار من مواجهات دامية وعمليات اغتيال وتفجيرات لمستودعات نفطية وأخرى تطال نشطاء وفاعليات «سُنيّة» مؤيدة للمالكي وفي مقدمتها قوات ورموز ما يعرف بـ(الصحوات).
الأسئلة حول مصادر وأسباب القوة اللافتة التي يتوفر عليها تنظيم داعش وقدرته على خوض أكثر من معركة على اكثر من جبهة، سواء في العراق ام في سوريا، تبدو مشروعة وقائمة، بعد أن أعلنت الحرب على الدولة العراقية وأقامت إمارتها في محافظة «الرقّة» السورية، في الوقت ذاته الذي تحدى فيه أمير داعش، زعيم القاعدة أيمن الظواهري وطالبه بالتراجع وإعلان «التوبة» والتخلي عن ابو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة اذا ما اراد ان يعود الى «فكر» ورسالة مؤسس القاعدة الامير «الذهبي».. اسامة بن لادن..
من اين تأتي هذه القوة لداعش؟ وكيف يتوفر هذا التنظيم الذي تمدد فجأة وغدا صاحب مشروع «بديل» للقاعدة يتحدى الظواهري ويفتك بالجولاني ويحاصر دير الزور ويعقد «صفقات» مع حكومة اردوغان، تزيد الاخيرة من كمية المياه المتدفقة الى نهر الفرات، في مقابل ان يسمح داعش لممثلي اردوغان بالوصول الى ضريح سليمان شاه، ثم وهذا هو الاهم يبسط سيطرته على مدينة الفلوجة، ويتجه مقاتلوه الى الموصل وكأني بهم ينفذون خطة مُحْكَمة، بتكتيك هجومي لاحتلال «مساحة دولة» يقيم فيها سلطته، شريطة ان تكون على جانبي الحدود العراقية السورية، وبما يمكّنه ليس فقط من الزعم بأنه يقيم «دولة» تنسجم مع التسمية التي خلعها على نفسه، وانما ايضاً في التحكم بـ (جيب) سُنّي، يفرض عليه خطابه ومقاربه وقراءته ومفهومه للاسلام، الذي يرفع رايته، كما يقارف الآن اثامه وجرائمه في محافظة الرقة، التي سيطر عليها وما يزال..
من السذاجة الاعتقاد بأن تنظيماً تكفيرياً كهذا ينشأ من العدم، أو يتمول من السرقات والنهب والاتاوات فقط، أو عوائد النفط التي يبيعها لسماسرة اتراك بعلم وتشجيع حكومتهم، ومن التبسيط ايضاً اعتبار الحماسة او عمليات غسيل الدماغ الذي يخضع لها المنتسبون او المعجبون بالتنظيم «وجرأة» اميره البغدادي، هي التي تزيد من زخم وتمدد هذا التنظيم وعديده، اذ لا بد من استحضار «نظرية المؤامرة» والبحث عن الجهات المستفيدة من بروز تنظيم تكفيري ودموي وارهابي كهذا، ثم حصر «وظيفته» في العراق وخصوصاً سوريا ما يعني ان الذين يمولون تنظيمات وكتائب وجبهات والوية لتدمير وتقويض الدولة السورية، هم انفسهم الذين «يعتنون» بداعش ويعطفون عليه ويشدون على يديه، والا لكانوا تعرضوا لابتزازه او تهديده وهو (داعش) لفرط ادبه والتزام اميره المفدى لا يفعل ذلك، ما دام «المطلوب» يصل في موعده، وأكثر مما يحتاجه نقدياً ام تسليحاً ام معلومات استخبارية وخصوصاً دعماً لوجستيا..
من يدفع الثمن اخيراً؟
انتظروا ما ستسفر عنه التحولات الكبيرة الجارية الآن في المنطقة، وبخاصة ما سيظهر من اوزان وحجوم حقيقية لكثيرين تضخموا وصدقوا انهم باتوا يكتبون جدول اعمال المنطقة ويقررون مصائرها.