ثمة ثابت واحد ضمن متغيرات كثيرة حدثت ما بين زيارة البابا بولس السادس الى الأردن عام 1964 وزيارة البابا فرنسيس هذا العام 2014 الى المنطقة التي شهدت انبثاق الديانة المسيحية ورسالة السلام التي بشر بها السيد المسيح عليه السلام.
هذا الثابت هو أن أنموذج الدولة الأردنية كدولة عربية أسلامية قائمة على الوسطية والتوازن والأعتدال بقي نفس الأنموذج وبقي له الدور نفسه. في حين عصفت بالمنطقة عواصف شتى أدت الى سقوط مريع لأنموذج الدولة التوتاليتارية الدكتاتورية ذات النظرة الأحادية، وتغيير انظمة الحكم في بعض الدول، ودخول دول أخرى دوامة العنف والأقتتال. وبقي الأردن دولة يعيش فيها الجميع عيشا مشتركا ينتمون لتراب واحد ومرجعيات ثقافية واجتماعية واحدة وطموحات وأحلام واحدة.
خلال نصف القرن ما بين الزيارتين بقي الأردن أمينا للرسالة الأولى التي نشأت الدولة عليها وللتقاليد الراسخة لدى الهاشميين في أعتبار هذا البلد أنموذجا للسلام والمحبة وللعيش المشترك يقوم على رسالة تنويرية نهضوية منبثقة من مباديء الثورة العربية الكبرى ثورة العرب جميعا من أجل الأستقلال والحرية وبلورة الهوية الوطنية.
وخلال زيارات متتابعة لأربعة رؤساء للكنيسة الكاثوليكية بقيت العلاقة بين الأردن والفاتيكان في أعلى صورها وأبهاها وذلك لتماثل في الرؤى والنظرة المشتركة الى القضايا العالمية والأقليمية والتي تقوم على تحقيق العدالة والسلام لقاطيني هذه الأرض.
لقد وعى الفاتيكان دور الأردن في المعادلة الصعبة والمعقدة للمنطقة في خضم الصراعات المذهبية والأثنية والجيواقتصادية التي تعصف بالأقليم. وبذا تلقى هذا البلد دعما معنويا عاليا في كل مرة من مركز القرار الديني الكاثوليكي في العالم أجمع كان اخرها تثبيت مركز عماد السيد المسيح من قبل الفاتيكان في الضفة الشرقية لنهر الأردن كما جاء في الأنجيل المقدس وتثبيت سبع مناطق للحج المسيحي أضافة الى دعم الموقف الأردني في المحافل الدولية.
تأتي زيارة البابا للأرض المقدسة هذا العام والمنطقة تمر بمخاض عسير، لم ينته بعد، مخاض باهظ الكلفة يعصف بجميع الفئات الأجتماعية والمناطق والدول. ويدفع الثمن في كل مرة الشعوب من قتل وتشريد وتهجير. وتشهد المنطقة كنتيجة لذلك هجرة عالية لمسيحيي الشرق منذ حرب حزيران عام 1967 مرورا بالحرب الأهلية اللبنانية والأنتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وحرب العراق وسوريا.
كما تاتي هذه الزيارة والمنطقة تشهد تراجعا مأساويا في الدور التنويري والثقافي والنهضوي الذي لعبه العرب المسيحيون في الحياة السياسية والثقافية منذ بدأ انبثاق عصر النهضة في اواخر القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن العشرين. الدور الذي ساهم في بلورة الهوية الوطنية العروبية من خلال تشكيل أحزاب ناشطة في الحياة السياسية وتقديم شخصيات عربية مسيحية وطنية حاربت الأستعمار وسعت الى التنوير والى اعتبار الأسلام مرجعية ثقافية وجدانية لكافة العرب والأثنيات الأخرى على أعتباره هوية عامة ثقافية بغض النظر عن المعتقد أو الدين ورفع شعار الدولة المدنية الأول: ( الدين لله والوطن للجميع) حيث بدأت بذلك الخطوات الأولى لتحقق الدولة المدنية دولة المواطنة للجميع بغض النظر عن الدين أو العرق.
وأذا كنا هنا نستذكر الماضي فأنما لأخذ العبر والدروس ولكي نثبت أن مشروع التنوير لم ينطفئ تماما وانه في هذا المخاض العسير الذي تشهده منطقتنا والمخاوف التي تعصف بنا لا بد من دعوة للنهوض من جديد بعد انهيار شكل الدولة العربية القائمة على وجهة النظر الواحدة. ولا بد من دعوة لجميع العرب المسيحيين لأستعادة دورهم في البناء والتنوير كما كان عبر التاريخ أذ أنه (لا شرق من دون المسيحيين) كما قال قداسة البابا فرنسيس في معرض حديثه مؤخرا لأساقفة الشرق.
لقد آن الأوان لكي ينسجم الدور الأردني الرسمي مع الحركة المدنية لهذا الدور وأعني حركة الناس والشعب والأحزاب والنخب الأجتماعية لكي يكتمل المشهد ولكي يكون الأردن كما كان عبر التاريخ مفتاحا للنهوض وذلك عن طريق أتمام الأصلاح الشامل الذي دعا اليه وبدأ به صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين والنظر في أصلاح التعليم لكي يكون تعليما تنويريا كما هي رسالة الدولة القائمة على مباديء الثورة العربية الكبرى ولكي نصل به الى بلورة الشخصية الوطنية الجديدة شخصية قائمة على الأعتدال الذي عرف عن الأردن وعلى قبول الاخر والتنوع الثقافي والعرقي والديني لتكتمل الصورة الفسيفسائية المشرقة التي تشكل مكونات المشهد الأردني.ولا بد من أعادة النظر في حزمة التشريعات والقوانين لتنسجم أيضا مع روح النهضة العربية الكبرى التي تأسست عليها الدولة ولتعبر عن مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي نسعى اليها.
وهنا لا بد من تشجيع الحوار الحر والصريح والمفتوح الذي دعا اليه جلالة الملك في أوراقه النقاشية ليكون حوارا بين كافة فئات المجتمع وتجمعاته الوطنية وأحزابه وجمعياته وأفراده في أطار أحترام الرأي والرأي الاخر من أجل اشاعة جو الجدل الأيجابي والعصف الفكري من أجل الوصول الى قناعات مشتركة حول مكونات الهوية الوطنية وحول الموقف مما يحيط بنا من أحداث ومستقبل الوطن والمنطقة.
ثم لا بد من حمل هذه القناعات المنبثقة عن الحوار والعصف الفكري داخل أطار التجمعات الأجتماعية الى النخب والجماعات مثل البرلمان والأعيان والأحزاب والمؤسسات الأعلامية التي ستنقلها الى مستوى التشريع والتنفيذ.
أما الدور المسيحي في الشرق فلا بد من فهمه جيدا في أطار مشروع النهضة العربية من أجل أمكانية استعادة هذا الدور التنويري الوطني واستيعابه من قبل المكونين الأسلامي والمسيحي بحيث يستطيع أن يتبنى العرب المسلمون فعلا وقولا وأعتقادا الحفاظ على الوجود العربي المسيحي في الشرق ومن أجل أن يتبنى العرب المسيحيون فعلا وقولا واعتقادا مهمة الدفاع عن الأسلام ضد الهجمات المغرضة عليه وذلك انسجاما مع دورهم التاريخي في أحتضان الأسلام في مهده عند هجرة المسلمين الأوائل الى الحبشة ومن ثم عند نصرة المسيحيين العرب الغساسنة لأبناء عمومتهم العرب المسلمين في بلاد الشام والوقوف معهم جنبا الى جنب في تحرير الشرق ومرورا بالمحطات الكبرى في التاريخ التي وقف المسيحيون دائما مدافعين ومنافحين عن الأسلام كميراث حضاري ثقافي وحفيد انساني للمسيحية العربية.
نرحب بقداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس الأول على أرضنا ونحييه باحترام كبير مسلمين ومسيحيين في بلدنا الأردن ونشكر له مواقفه الداعمة ونقول لقداسته أن المسيحيين الأردنيين لن يهاجروا وأذا هاجروا فأنهم يعلقون الأردن قلادة في أعناقهم ويبقون صورته البهية في أحداقهم وأن الفلسطينين المسيحيين يا قداسة البابا يتمثلون في حياتهم ونضالهم سير الشهداء الأوائل الذين دافعوا عن الحق أمام الوحوش والسيف. يبقى أن يستمر الفاتيكان في مواقفه المناصرة لفلسطين وللأردن وللقضايا العربية العادلة. وأن نسير جميعا نحو زمن خال من العنف والظلم والأضطهاد.