مع توالي الأزمات العالمية وتعمّق وطأة تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، أصبح الالتفات إلى أبرز حلول التدخُّل المطبّقة عالميًا وتبنّي ما يصلُح منها وتوطينه ضرورة مُلِحَّة؛ وذلك لإيجاد التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بشكل مستدام. وعند ذكر الأزمات العالمية، لنا في وباء كورونا المثل، حيث ساهمت الجائحة في تقييد الأنشطة التجارية، واضطراب سلاسل الإمداد والتوريد ورفع كُلفها، مما أسهم في انخفاض الدخول، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وانخفاض مستويات الاستثمار، ولنا أيضًا في الحرب الروسية-الأوكرانية مثالٌ آخر، حيث أسهمت في زيادة أسعار النفط، وارتفاع أسعار الكهرباء إلى أعلى مستوىً لها على الإطلاق، ناهيك عن تضخم أسعار الغذاء بشكل يتجاوز الزيادات العادية في مؤشر أسعار المستهلك.
وعند التطرُّق إلى معالجة الاختلالات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي وإحداث التوازنات فيما بينهما، يبرز مفهوم "استثمار الأثر الاجتماعي" –أو ما يُعرف أيضًا بالاستثمار الاجتماعي، أو استثمار الأثر، أو الاستثمار ذو الأثر الاجتماعي– كإحدى الممارسات الحديثة المعنية باستثمار رأس المال في مشروعات مدرّة للربح ولكنها في نفس الوقت قادرة على تحقيق المساهمة الجزئية والمتدرجة في معالجة بعض من التحديات الاجتماعية ذات الأولوية الوطنية والمجتمعية.
من الناحية النظرية، يُعرّف استثمار الأثر الاجتماعي بأنه أحد أنواع الاستثمار المسؤول اجتماعياً الذي يُعنى بمعالجة قضية اجتماعية ما، تخص شريحة أو أكثر من الفئات المستهدفة بالعمل أو الخدمة الاجتماعية، من خلال توظيف رأس المال بأنواعه (مثل رأس المال التجاري، أو رأس المال المخاطر/ الجريء، أو رأس المال الحكومي، أو رأس المال الخيري) في مشروع إنتاجي أو خدمي (قد يأخذ شكل شركة أو مركز أو برنامج أو صندوق ائتماني أو غير ذلك)، بشرط أن يكون ذلك المشروع:
·مجدياً من الناحية الاقتصادية للمستثمرين (أي أصحاب رأس المال)، من خلال قدرته على تحقيق العوائد والمكاسب المالية لهم.
·مجدياً من الناحية الاجتماعية للفئات المستهدفة بالاستفادة من الآثار التنموية للمشروع، القابلة للقياس والمُسهِمة في تحسين واقعهم وإثراء جودة حياتهم.
·قادراً على المساهمة جزئياً وتدريجياً في تحقيق التنمية المجتمعية الشمولية والمستدامة، وفق الرؤية الوطنية الاستراتيجية المنشودة.
من أقدم وأشهر أمثلة الاستثمارات الاجتماعية:
·صناديق تمويل المشاريع الإنتاجية متناهية الصغر (Microfinance Funds) إن كانت تلك الصناديق هادفة للربح، إلى جانب مساعدتها للأسر المحتاجة على الإنتاج والكسْب.
·مصانع أو مشاغل تشغيل السجناء إن كانت منتجاتها تُطرح للبيع للمؤسسات الحكومية أو للأسواق المحلية أو العالمية، إلى جانب تمكين السجناء من الحصول على الأجر اليومي الذي يُعينهم على سداد ديونهم التي أودت بهم إلى السجن أو للصرف على عائلاتهم بما يخفف من أعباء الدولة في رعاية ذوي السجناء.
وقد انطلقت هذه النوعية من المشاريع الربحية قبل صكّ مصطلح (استثمار الأثر الاجتماعي) والذي ظهر في الأدبيات العالمية لأول مرة عام (2007) من قِبل خبير الأعمال غير الربحية أنتوني باغ-ليڤين (Antony Bugg-Levine) وخبير الاستثمارات الاجتماعية والمخاطِرة جِد إيميرسِن (Jed Emerson). ومنذ استشراف مستقبل هذا المفهوم، بدأت استثمارات الأثر الاجتماعي بأخذ أشكالٍ وصُورٍ كثيرةٍ ومتنوعةٍ أكثر عُمقًا وحداثةً بحسب غاياتها، فهي قد تتشكل لتحقيق وتلبية:
(1)حاجة حكومية ماسة لإنجاز أهداف وطنية استراتيجية محددة ومنشورة—فعلى سبيل المثال لا الحصر:
·قد تسعى حكومة ما –من أجل الارتقاء بنسبة المشاركة الاقتصادية للمرأة– إلى إطلاق سلسلة من حضانات الأطفال الربحية غير باهظة التكلفة في الأحياء الشعبية، لتشجيع الأمهات على العمل، ومساندة الأم العاملة في الاستمرار على رأس عملها، وذلك إما كاستثمار حكومي، أو كاستثمار بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو من خلال تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فيه، وذلك بتسويق الفكرة ومستويات جدواها الاقتصادية والاجتماعية، وتسهيل متطلبات ترخيصها من خلال خفض سقف الاشتراطات في المواصفات، وبالإضافة إلى إتاحة الفرصة للمشروع بالتمتع بنظام الحوافز الضريبية.
·قد تسعى مؤسسة ما للضمان والتأمينات الاجتماعية بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية –من أجل تحفيز الأسر المستفيدة من المعاشات الضمانية والمساعدات المقطوعة (التي تضم فردًا أو أفرادًا قادرين على العمل والكسْب) على الانخراط في سوق العمل وتحقيق الدخل الكريم الذي قد يُخرجهم من حد الفقر– إلى التعاقد مع عدد من شركات التوظيف المحلية في إطار برامجيّ، بُغية قيامهم بتوظيف أبناء الأسر المحتاجة في مهن مناسبة لإمكانياتهم وظروفهم، على مبدأ الدفع بحسب النتائج ضمن أحكام وشروط متفق عليها (على مبدأ: أنت توظِّف، وأنا أتأكد ثم أدفع)، وبالتالي تتحوّل شركات التوظيف المنضوية في تنفيذ هذا البرنامج الحكومي (بسبب الممارسة) من استثمارات رأسمالية صِرفة إلى استثمارات اجتماعية تُسهم في معالجة قضايا الفقر والبطالة، والتخفيف من الأعباء الاقتصادية للدولة.
(2)حاجة الجمعيات الخيرية لخدمة مستهدفيها بالعمل الاجتماعي مع الحرص على تحقيق الاستمرارية والاستدامة لمواردها المالية—فعلى سبيل المثال لا الحصر:
·قد تسعى جمعية خيرية ما –مهتمة بمجابهة قضية الغارمين لصناديق تمويل المشاريع الإنتاجية متناهية الصغر– إلى إطلاق استثمار أثر اجتماعي هو عبارة عن شركة ربحية لتسويق وبيع وتوزيع منتجات المشاريع متناهية الصغر وخصوصًا الواقعة منها في المناطق النائية، وقايةً لتلك المشاريع من التعثّر بسبب ضعف الانتشار والوصول.
·قد تسعى مؤسسة مانحة ما –معنية باستدامة أعمال الجمعيات الخيرية وحماية موارد تلك الجمعيات من الجفاف– بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية والجهات الرسمية الأخرى ذات الصلات التشريعية والتنظيمية والرقابية إلى تأسيس وإطلاق منصة رقمية للتمويل بواسطة الحشود (Crowdfunding Platform) تستطيع الجمعيات من خلالها عرض ملخصات "استثماراتها الاجتماعية" (التي تساعدها في استدامة مواردها المالية اللازمة لتغطية نفقاتها التشغيلية وأنشطتها الاجتماعية) على جمهور المواطنين لإتاحة الفرصة للمهتمين بشراء صكوك المرابحة في الأصول الثابتة لتلك الاستثمارات. وللتوضيح، قد تعرض جمعية خيرية ما فكرة لتأسيس وإطلاق مشغل خياطة لإنتاج الشالات وألبسة الصلاة وغيرها من الألبسة الجاهزة كاستثمار اجتماعي لا يوظّف إلا الأرامل والمطلقات والمهجورات والمعنفات، وتحتاج الجمعية إلى تمويل استثماري لشراء المعدات الحديثة.
(3)تطلعات رياديي الأعمال الاجتماعية من أصحاب النزعة نحو قضايا اجتماعية معيّنة تسترعي تعاطفهم وتستحوذ على اهتمامهم—فعلى سبيل المثال لا الحصر:
·قد يسعى ريادي اجتماعي ما –يرى في معالجة قضايا كبار السن محطّ اهتمامٍ شخصيٍّ– إلى تأسيس نادٍ للترفيه الاجتماعي والاستضافة المؤقتة للمتقاعدين وكبار السن بمواصفات ترفيهية ورعائية متميزة، كاستثمار اجتماعي (قد يكون ذو أسعار باهظة للانتساب ولا ضير في ذلك) يقدّم المرافق والأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية المتنوعة بالإضافة إلى خدمات الرعاية والعناية والاهتمام؛ رغبةً في منحهم الفرصة اليومية لتمضية أوقات ممتعة ومفيدة (حرصاً على صحتهم البدنية وسلامتهم النفسية وعلاقاتهم الاجتماعية)، بينما ذووهم منهمكون خلال ساعات النهار في أعمالهم اليومية. وتتجلّى غايات هذا الاستثمار الاجتماعي في مساندة ذوي المسنّين من خلال مواكبة ظروفهم الشخصية الاستثنائية، التي قد تتطلب منهم السفر للعمل أو الاستجمام، أو إجراء إصلاحات منزلية تؤثر سلباً في صحة ومزاج ذويهم، أو التعامل مع حالات سفر الخادمة المخصصة لرعايتهم، أو غياب الممرِّض المنزلي الخاص بهم، أو إيجاد حل مؤقت لمساندة ربة المنزل -الراعية لهم- في فترات معاناتها من المرض أو الإرهاق الشديد وحاجتها لفترة من النقاهة، أو حتى في حالات الانهماك في العمل لساعات طويلة قد تمتد لساعات متأخرة من الليل خلال فترات زمنية معينة (مع عدم تفضيل الاعتماد على خدمات الرعاية المنزلية دائماً أملاً في تغيير الأجواء لذويهم)، أو غيرها من الأسباب التي تستدعي ذلك، بُعدًا عن فكرة استيداع كبار السن في دور المسنين التقليدية.
·قد يسعى ريادي اجتماعي ما –يرى في التنمُّر داخل البيئات المدرسية أو في دائرة طلبتها خطرًا محدقًا وفتاّكًا– إلى تأسيس مركزٍ للاستشارات النفسية (كاستثمار اجتماعي) يضم شبكة من الاختصاصيين والمتمرسين في الصحة النفسية والاجتماعية للطلبة، ويُعنى بتقديم خدمات التوعية والتدريب المعتمد والاستشارات التوجيهية للإداريين والمرشدين الاجتماعيين والمعلّمين داخل المدارس لمساعدتهم في التعامل مع هذه الآفة والحد منها (على أن تتكفل المدرسة في تغطية أثمان الخدمات المطلوبة)، بالإضافة إلى تقديم خدمات الإرشاد النفسي والسلوكي والتنمية القِيَمِيَّة للمتنمّرين، وخدمات العلاج النفسي والتنمية الفكرية والانفعالية لضحايا التنمُّر (والتي قد تصبح أثمانها في يوم من الأيام إجبارية على ذوي المتنمّرين إذا أراد المشرّعون دعم ذلك حمايةً للطلبة).
(4)حاجة مجتمعية متزايدة—فعلى سبيل المثال لا الحصر:
·قد تتزايد حاجة مجتمع ما إلى خدمات نقل كبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الحركية الخاصة، على المستوى غير الإسعافي، الفردي منها والجماعي، مما قد يدفع مستمثر ما إلى تأسيس شركة نَقْل ربحية تشغّل أسطولًا من المركبات المجهزة بالمعدات المناسبة لخدمتهم، يقوده سائقون مدرَّبون في إقلال هذه الفئة ولا يتوانوْن عن القيام بواجبهم في مساعدة المستفيدين في الركوب والنزول بشكل آمن واحترافي؛تطلعاً إلى تحقيق الأثر الاجتماعي الذي يتمثل بمساعدتهم على الاندماج في أنشطة المجتمع بالقدر المناسب لكل منهم، سواءً كان ذلك بتسهيل التحاقهم بسوق العمل أو الدراسة الجامعية أو بمواقع إتمام المعاملات أو حتى بالمراكز التأهيلية أو العلاجية التي يترددون عليها، أو بتمكينهم من القيام بواجباتهم الاجتماعية، أو تنفيذ الخطط الشخصية، أو قضاء المصالح العائلية، أو غير ذلك. وقد تقدّم هذه الشركة خدمات التاكسي أو النقل الجماعي، أو خدمات الترتيبات الخاصة بالساعة أو اليوم، أو خدمات النقل بالاتفاقيات مع الشركات السياحية، أو مراكز الرعاية والإيواء، أو المدارس والجامعات، أو الجمعيات الخيرية، بالإضافة إلى خدمات تأجير المركبات القابلة للقيادة من ذوي الصعوبات الحركية، وتأجير المركبات المجهزة خصيصًا لمساعدة العائلات في أخذ ذويهم من أصحاب الصعوبات في جولات ورحلات مريحة. ويمكن لتطبيقات النقل عبر الهواتف الذكية (سواءً لخدمات التاكسي أو النقل الجماعي) تشغيل مركبات متخصّصة ومجهّزة لخدمة تلك الفئة لتُصبح بدوْرِها استثمارات اجتماعية إن لم تكن بالفعل قد خاضت مسبقًا في هذا المضمار أو ما يشابهه.
تتطلب دراسة أفكار مشاريع الاستثمار الاجتماعي تحليل جدواها من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وتعتبر أفضل تلك الأفكار من الناحية النظرية من تستطيع الموازنة ما بين العائد المالي على الاستثمار (ROI) والعائد الاجتماعي على الاستثمار (SROI).
ويحتاج قطاع الاستثمار الاجتماعي المستجد إسهامًا رائدًا من الأوساط الحكومية لترسيخ منظومةٍ بيئيةٍ (Ecosystem) متينةٍ له، يتفاعل فيه الوسطاء والفاعلون على جانبي العرض والطلب، وهذا ما سنتطرق إليه في مقال مستقل في المستقبل القريب.