تحت عنوان 'الجنون السياسي' يتعين ادراج تطورات الازمة الراهنة والقاتلة بين مصر وحركة حماس، وما تضمنته هذه الازمة، او المحنة، من توتر وتشاحن وتدهور في العلاقة بين الجانبين تجاوز كل الحدود، وتخطى كل المحاذير، وبات ينذر بافدح العواقب والاخطار، ليس على مصر وحماس فقط، بل على مجمل الاوضاع الفلسطينية والعربية ايضاً.
هذه الازمة المتصاعدة حد التصادم العدائي المقيت، ايقظت في الذاكرة ازمات مشابهة اندلعت في العقود الماضية بين منظمة التحرير ايام رئاسة ياسر عرفات، وبين عدد من الدول العربية، واسفرت - بكل اسف - عن خسائر جمة لهذه الاطراف كافة، فيما درت ارباحاً هائلة ومجانية للعدو الصهيوني.
ليس في صالح النظام المصري الجديد الذي نعتبره وطنياً وعروبياً تصنيف حماس كحركة ارهابية، وتأليب الشعب المصري عليها وعلى ابناء غزة عموماً.. وليس في مصلحة حماس مناطحة هذا النظام، ومهاجمته في سائر وسائل اعلامها، اكراماً لعيون الرئيس المعزول محمد مرسي العياط.. فحماس لم تعد تحتمل المزيد من التقوقع والعزلة، بعدما خسرت الساحات الاردنية ثم السورية ثم الايرانية ثم السعودية ثم الاماراتية، ناهيك عما بينها وبين سلطة رام الله.
لا يجوز ان يمتد عداء النظام المصري لجماعة الاخوان المسلمين، ليشمل حركة حماس التي وان كانت ذات مرجعية اخوانية، الا انها بالدرجة الاساس حركة مقاومة فلسطينية باسلة ابلت ذات يوم بلاءً مدهشاً ضد الاحتلال الصهيوني، وقدمت على مذبح الشهادة والفداء خيرة قادتها من الشيوخ والشباب، واستحقت بكل جدارة واقتدار احترام العرب والمسلمين وسائر احرار العالم.
وبالمقابل، ليس من حق حماس التدخل في شؤون الاقطار العربية، والدخول في لعبة المحاور والاصطفافات الاقليمية، والتطابق مع الحسابات والمخططات والطروحات الاخوانية والقرضاوية، فحماس المقاومة والمجاهدة هي التي اضافت للاخوان المسلمين القاً واضفت عليهم مجداً، وكتبت لهم بدماء شهدائها انصع شهادة في الوطنية والكفاح الثوري، بعد ان كانوا في نظر الشعب العربي مجرد توابع للمراكز العالمية، واذناب للعواصم الرجعية والنفطية العربية.
كلنا - نحن عواجيز السياسة - ما زلنا نتذكر اقتحامات ياسر عرفات للشؤون العربية الداخلية، ومعاركه الطائشة والخارجة عن السياق النضالي مع كل من الاردن وسوريا ولبنان وحتى مع بعض الفصائل الفلسطينية، وبعد ان استنزف قواه واستعدى الكثير من العرب عليه اطلق شعار 'يا وحدنا'، ثم ما لبث ان اعلن الاستسلام في اوسلو ورفع الراية البيضاء لدهاقنة تل ابيب.
هذا الدرس يجب الا يغيب عن اذهان قادة حماس، فقضية فلسطين ينبغي ان تظل فوق كل المحاور والمعسكرات والخلافات العربية، واصحاب هذه القضية وقادة فصائلها يتعين ان يظلوا خارج هذه المحاور والمعسكرات، وان يسخّروا معتقداتهم وتحالفاتهم لخدمة هذه القضية وليس العكس.. ولنا في حركة الجهاد الاسلامي خير نموذج ومثال، حيث نأت هذه الحركة الراشدة بنفسها عن اي تدخل في الشؤون العربية، واي تورط في معارك وصراعات جانبية، فيما بقيت بوصلتها تؤشر دوماً نحو الاقصى والقدس وعموم التراب الفلسطيني.
ليس معنى ذلك ان حماس هي الطرف المذنب او الجاني في العلاقة المأزومة بينها وبين مصر، بل هي الضحية والطرف المجني عليه.. فهي - اولاً - ضحية حماقات الحكم الاخواني الفاشل في مصر، ودكتاتورية مكتب الارشاد اللذين اطاحا باستقلاليتها وحملاها فوق طاقتها، وهي - ثانياً - ضحية غضبة الحكم الجديد المرتبك الذي غالباً ما ينسب الى حماس ما لم تقل، ويحملها مسؤولية ما لم تفعل، ويحسب عليها جماعات اصولية ارهابية سبق ان اصطدمت معها في عدة مواقع، وهي - ثالثاً- ضحية السلطان العثماني والمملوك القطري اللذين اوهماها ان تحرير فلسطين يمر من دولة الخلافة التي باتت قاب قوسين او ادنى.
حتى اغبى الناس يستطيع ان يدرك حجم الحملة الاعلامية والسياسية المصرية الحاقدة - والمدفوعة الثمن في الغالب - على حماس ابتداءً، ثم على غزة فيما بعد، ثم على الفلسطينيين جمعياً.. فهناك اقلام واصوات وصحف وفضائيات مصرية خاصة ومشبوهة التمويل، لا همّ لها سوى التهجم على حماس وغزة والمقاومة بما في ذلك حزب الله اللبناني، ولا هدف لها سوى تأليب الرأي العام المصري على الغزازوة خصوصاً والفلسطينيين عموماً، بوصفهم مخربين بالفطرة، وغادرين يطعنون في الظهر، وناكري جميل يتجاهلون تضحيات مصر.
وليس من شك ان حصيلة هذه المنابر والاقلام والاعلاميات المغرضة، بل المخزية، لا تصب الا في صالح اسرائيل وباقي اعداء مصر وفلسطين والعرب، ولا تؤذي اولاً واساساً سوى النظام المصري الجديد الذي تحاول اظهاره في صورة النظام الحاقد على المقاومة، والناقم على الفلسطينيين، والمتلهف على التخلص من اعباء القضية الفلسطينية.. ذلك لان اقصر الطرق لتشويه وتهشيم نظام ما او قائد ما، دمغه بخيانة قضية فلسطين وكراهية شعبها المجاهد والمشرد.
لقد قضى الرئيس صدام حسين شهيداً وليس على لسانه امام اعواد المشنقة سوى الهتاف لفلسطين.. لم يهتف للعراق، او لحزب البعث، او للقومية العربية والرابطة الاسلامية، بل لفلسطين التي كانت وستبقى الاساس والمقياس لاي انتماء وطني وعروبي واسلامي وثوري وتحرري.
واذا كان النظام المصري الجديد يرغب بالفعل في الاقتداء بجمال عبدالناصر، والسير وفق برنامجه ومنهاجه، فليس امامه سوى التمعن والتحديق طويلاً في 'فلسطينية' هذا الزعيم الخالد الذي يصح فيه المثل القائل 'رب اخٍ لك لم تلده امك'.. ذلك لانه كان فلسطينياً في ميادين الجهاد وليس في شهادة الميلاد.. فقد نشأ فلسطينياً يقاتل في الفالوجة، وبقي كذلك حتى لفظ انفاسه الاخيرة في مؤتمر القمة العربية، دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية رغم ان بعض فصائلها المراهقة كانت قد علقت صورته على رقبة حمار اجرب.
قبل نحو شهر وجدتني مدفوعاً لاجراء مكالمة هاتفية مطولة مع آخر قائد حمساوي بقي على تواصل معي، وقلت له ان ليس في منفعة حماس ان تضع رأسها برأس مصر، وان تناقش علاقتها مع النظام الجديد عبر وسائل الاعلام.. اقترح عليك ان تشكل وفداً حمساوياً رفيع المستوى وتهبط به فجأة في مطار القاهرة، وتطلب من المسؤولين بالمطار اما ان يذهبوا بالوفد الى سجن ابو زعبل، او الى مقر الفريق - انذاك- عبد الفتاح السيسي لاجراء حوار موسع حول كل القضايا العالقة، وخلف الابواب المغلقة.. لقد وعدني بدراسة هذا الاقتراح، ولكن لهجته الفاترة حملتني على الاعتقاد بانه لن يفعل.. وهكذا كان.
هذا الاوان، وبعد ان وقعت الفأس في الرأس، ليس امام حركة حماس الا ان تسابق هذا الزمن الغادر كي لا يطحنها، وان تراجع كامل سياساتها وملفاتها وممارساتها طوال نكبة 'الربيع العربي'، وان تعيد تظهير شخصيتها كحركة مقاومة فلسطينية سيدة ومستقلة وليست دائرة في اي فلك، وان تبادر بسرعة وشجاعة لاجراء سلسلة مصالحات ومحاورات وتوافقات مع مصر وسوريا والعراق وايران وروسيا، دون ان تتخلى عن صداقاتها وتحالفاتها الراهنة مع تونس وتركيا وقطر، ودون ان تتنكر لاصولها الاخوانية القديمة شرط الاخذ بعين الاعتبار ان اهل مكة ادرى بشعابها، وان الولاء لفلسطين يتقدم على كل الولاءات والجماعات والاولويات.