استنزفت سياسة العقوبات أغراضها وتسعى واشنطن لتحويل الهجوم الدبلوماسي الإيراني فرصة لإحداث خرق في جدار العلاقات والخروج بتسوية للملف النووي
الادارة الاميركية تحولت باتجاه ايران وعينـُها على سوريا لمحاولة إيجاد مقاربة تحظى بموافقة اللاعبين الكبار في المنطقة
بعد انجلاء غيوم التدخل العسكري الأميركي عن سوريا ولو مرحلياً، ينشغل الكثير من السياسيين والمحللين في العمل لفك "شيفرات” الرسائل المتبادلة بين الادارة الاميركية وحكومة الجمهورية الاسلامية في ايران وانعكاسها على مجمل مشهد الاشتباك الحاصل في المنطقة. اللهجة التي تتسم بها هذه الرسائل المكتوبة والشفهية تبعث على التساؤل عن الدوافع الحقيقية وراء انفتاح الجانب الأميركي على ايران وتلقفه خطاب حكومة الرئيس الشيخ حسن روحاني الباحث عن "تفاعل بناء” مع العالم، ولا سيما مع الغرب الذي يمسك بالكثير من مفاتيح السياسة والاقتصاد الدوليَيْن. كما توجد شكوك حيال إمكانية تجاوز الجانبين لعقود من انعدام الثقة المتبادلة و”الحرب الباردة” التي طبعت هذه العلاقات وتـُرجمت مواجهات ساخنة حول قضايا عدة.
واشنطن ومأزق العقوبات:
لقد تعامل البيت الأبيض الأميركي بترحيب لافت مع ما اعتبرها "الإشارات المهمة جدا التي قالتها ايران وحكومتها الجديدة”، معتبرا انها "تبنت مقاربة جديدة”، من دون ان ينسى التذكير بأن "الأفعال اكثر أهمية من الاقوال”. واضح من مؤشرات مختلفة ان البيت الابيض يبحث عن الاستفادة من اية فرصة قد تلوح له لإحداث خرق في الحائط المسدود للعلاقات بين الجانبين، وهو في السنوات الاخيرة بدأ يشجع على اقامة تواصل على مستويات ثقافية وفنية ورياضية غير رسمية ويفتح نوافذ الكترونية (عبر مواقع التواصل الاجتماعي) مع الجمهور الايراني للالتفاف على الأبواب الموصدة رسميا بين الحكومتين.
ويبدو الانفتاح المستجد مدروساً ومشروطاً، وهو يعكس الحاجة المشتركة لترتيب تفاهم جديد ينظم قواعد الاشتباك بين دولتين تتواجهان عقائديا وسياسيا. وقد توصل الجانب الاميركي الذي لم يتخل بعد عن سياسة الاحتواء التي يتبعها منذ بداية التسعينيات الى ان العقوبات الاقتصادية الدولية (عبر مجلس الامن) او الأحادية (بمبادرة اميركية منفردة) والتي وصفها مسؤولون اميركيون بأنها "الأشد في التاريخ” لم تتمكن من حمل ايران على التراجع عن سياساتها لا سيما في ما يتعلق ببرنامجها النووي. وباتت واشنطن تجد صعوبة هائلة في ايجاد "اجماع دولي” يوافقها على تبني مزيد من العقوبات التي تحولت عمليا الى محاولة خنق وشل للاقتصاد الايراني.
وازاء الهجوم الدبلوماسي الهادئ الذي يتبعه الرئيس الايراني الجديد، انبرت دول عدة فاعلة على المسرح الدولي تدعو لمنح المفاوضات مع ايران فرصة، وهو أمر يعقـّد جهود الولايات المتحدة لإخضاع ايران وقد يُظهر عزلتها على المسرح الدولي في حال مضت في سياسة العقوبات المشددة. واضافة الى اخفاقها في حمل مجلس الامن الدولي على تبني قرارات جديدة ضد ايران وضعف قدرتها على تحشيد الحلفاء لخطوات أحادية، تتجه واشنطن للانغماس اكثر في مشاكلها الداخلية، بعد ان أثقلتها العسكرة والمواجهات في غير منطقة من العالم سياسيا واقتصاديا، بينما يظهر في الافق خصوم عديدون للولايات المتحدة تزداد جرأتهم في قول "لا” او دول تبحث عن وراثة للدور الاميركي او المشاركة في القرار.
الازمة السورية وفرصة التغيير:
وثمة تطور اقليمي مهم يمكن ان يشكل دافعاً اضافياً للولايات المتحدة لفتح اتصالات مع ايران، وهو تراجعها الاخير عن تهديدها بالهجوم على سوريا. وقد عبرت واشنطن عن رضاها على كشف دمشق عن اسلحتها الكيميائية، وتعاملت مع هذا الامر على انه "جائزة ترضية” يمكن ان تبرر لها الانصراف عن مهاجمة سوريا في هذه الآونة لأسباب تتعلق خصوصا بتوافر مظلة دعم اقليمية ودولية لسوريا. وهذا الوضع قد يخلق نموذجاً مرغوباً به من جانب الولايات المتحدة، قد يقود- في حال تم التوصل الى تسوية في الملف النووي الايراني- الى تجميد طهران التخصيب عند مستوى معين ووقف مشاريع نووية معينة يجري العمل على تطويرها. وتسوية كهذه قد تساعد ادارة اوباما على تسويقها نجاحا وانتصارا لسياستها القائمة على الاحتواء بدلا من استنزاف القوة العسكرية في صدامات هنا وهناك. ولا شك ان الادارة الاميركية، التي حصلت على "جائزة ترضية” من خلال تهديداتها لسوريا، تأمل في حصول تغيير في ايران ومكسب مماثل اعتماداً على تقدير "تعب” الايرانيين من آثار الحرب الاقتصادية التي تـُشن على بلادهم منذ سنوات طويلة.
وثمة أمر آخر ربما تسعى واشنطن اليه وهو الادراك المتزايد لديها ان اي حل للموضوع السوري يحتاج فعلا الى الاعتراف بدور مؤثر لإيران وقدرتها على الاسهام في حل سياسي للازمة، بفعل ما تمثله طهران من عنصر ضامن، مضافاً الى الضمانة الروسية، لمواكبة تنفيذ اي حل يُتفق عليه. وهذا لا يعني بالضرورة ان واشنطن مقتنعة كلياً بالحل السياسي، وهي التي لا تخفي رغبتها في اسقاط النظام السوري بالوسائل الممكنة، ومن غير المستبعد ان الانعطافة الاميركية المؤقتة من سوريا الى ايران ربما تهدف الى اقناع طهران بالتخلي عن الرئيس الاسد، على ما كتبت جريدة الغارديان البريطانية.
ومن هنا يرى الاميركيون ان مقابلة "الهجوم” الدبلوماسي الايراني بهجوم مضاد من مثله يبدو لازماً في هذه المرحلة لاستيعاب اندفاعة ايران الجديدة في السياسة الخارجية وترويضها بمجموعة من الشروط تتكيف مع طبيعة الظروف الحالية ومطالب ايران في تثبيت حقوقها والاعتراف بدورها.
طهران: المرونة والثوابت
أما طهران التي يختلف الكلام فيها بشأن مستقبل العلاقات مع اميركا، فيسودها اتجاه غالب لممارسة "سياسة ناعمة” لا تتنكر للمبادئ الثابتة ولا تخضع لشروط الغرب ولا تتخلى ايران بموجبها عن حقوقها النووية. إنها "المرونة المفيدة والضرورية احيانا، ولكن من دون نسيان من هو الخصم وما هو هدفه”، كما عبر الإمام السيد علي الخامنئي أمام قادة حرس الثورة الاسلامية. ويبدو ان الامام الخامنئي يدرك اهمية تنسيق هذه الحركة الخارجية وتوفير توافق حولها حتى لا تشكل مطمعاً للدول الغربية في إحداث شقاق داخل البلاد طالما راهنت عليه.
الحلفاء المنزعجون:
وعلى ذلك، يبدو ان المتفائلين بتغير جوهري في العلاقات المقطوعة بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والولايات المتحدة الاميركية لا يدركون حجم العقبات التي تقف في وجه "الحلم الاميركي” في استعادة ايران. ولو كان الامر يعود لأميركا وحدها لهان الخطب عليها، فهي يمكن ان تتجاوز الى حد ما المرارات التي تحملتها بسبب المواجهة المفتوحة مع طهران، لكنها تتطلع الى ما حولها فتجد العديد من حلفائها منزعجين من اي تطور ايجابي في العلاقات الاميركية- الايرانية. ومن هؤلاء "اسرائيل” وبعض الحكومات العربية التي حرضت في السر ( كما جاء في وثائق ويكيليكس) على ضرب ايران، اضافة الى تركيا التي تحاول لعب دور قيادي في المنطقة على هامش المواجهة الاميركية- الايرانية وعلى هامش غياب الدور العربي الفاعل.
واذ لم تفلح اسرائيل في جر اميركا الى حرب على ايران سابقاً ولا على سوريا لاحقاً، فهي تـُبدي انزعاجاً كبيراً وعلنياً من رغبة اميركا في التفاوض مع ايران. وقد بادر رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو الى طرح اربعة "شروط” قبل لقائه اوباما في واشنطن خلال الايام المقبلة، في محاولة محمومة لفرملة أية استعدادات اميركية لتخفيف الحصار الاقتصادي على ايران، وهو الحصار الذي سعت اليه تل ابيب في الليل وفي النهار تحت عنوان "عقوبات مُشلة”، والغاية منه تفكيك البرنامج النووي الايراني وليس تحديد مداه فحسب، اضافة الى وقف دعم الجمهورية الاسلامية للمقاومة ضد "اسرائيل”. ومن الطبيعي ان "اسرائيل” ستنشط لدى "اصدقائها” في الكونغرس الاميركي للضغط على ادارة اوباما ومنعها من رفع بعض العقوبات التي تأمل هذه الادارة ان تكون الجزرة التي تحاول من خلالها جذب انتباه ايران اليها.