كل بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة، ويبدو أن علينا من اليوم أن نتشكك في كل بوصلة تشير إلى القدس أيضا، وكأن القدس أصبحت اليوم الغرض الذي تعلق عليه جميع النوايا السيئة، وكأن البعض، يصرون على أن ينشروا غسيلهم الوسخ على أسوار المدينة المقدسة، وها هو ذا، همام سعيد، يخرج من غفلة العصور الوسطى، ويحول مرسي إلى رجل الكرامات والمعجزات، ويراه على جواده متجها إلى بيت المقدس، ولكن سعيد لا يوضح إطلاقا سبب الزيارة، هل هو لتحرير القدس، أم لزيارة صديقه العزيز بيريز!
الإخوان حولوا الدين إلى تجارة، وجعلوه عرضا لكل مؤامرات العالم ومنتفعيه، والدعوة السلفية وجدت نفسها بعد المشاهد التي أغرقت التلفزيونات قاطبة، باستثناء الجزيرة، مضطرة لأن توضح الأمور من وجهتها الشرعية، وبدأت ترد على الإخوان في غلواء التكفير والشيطنة التي يمارسونها في حق الجميع، ابتداء من الجيش المصري ووصولا إلى المجتمع ككل، وكأن سيد قطب نفسه هو من يدير العمليات والصفقات.
فضحت الدعوة السلفية الإخوان، واتهمتهم صراحة بأن ما يخوضونه اليوم، ليس من أجل الإسلام، وكان الشيخ أحمد الشحات واضحا في تحذيره للسلفيين من النزول مع الإخوان في بيانه الذي أًصدر مع تفاقم أحداث مسجد الفتح بالقاهرة، فيقول مخاطبا التيار السلفي: (إن الإخوان من بدأوا المعركة من أجل عودتهم إلى الكرسى مرة أخرى، فلا تقبلوا على أنفسكم أن تكونوا وقوداً لمعركة يقودها من انعدم ضميرهم وصار حرصهم على المنصب أولى من الدين والوطن)، ولا أعرف سببا مقبولا واحدا يدفع الإخوان في الأردن لأن يستفزوا إلى هذه الدرجة، ويخرجوا من العقلانية السياسية التي صبغت أدائهم ليدخلوا في شعوذات العصور الوسطى بهذه الدرجة المنفلتة.
هل يريد الإخوان أن يخبرونا بأن علينا أن نعيد مراجعة مواقفنا معهم لتجنب ما يحدث في مصر؟ ربما، ولكنهم يثبتون أنهم لا يعرفون الأردن، ولا يعتبرونه سوى مكان وليس وطنا، ومجموعة من المناصب التي يمكن أن تمنحهم بعضا من السلطة والنفوذ يوظفونها في إطار السعي إلى بناء مشروعهم الاستحواذي، ويفوت الإخوان أن الأردن تعامل مع تحديات أكبر وأوسع في الستينيات حين كان العالم يتوقع أن تنتقل تجربة (هانوي) إلى عمان.
إن الشعب الأردني، مثل الشعب المصري، متدين بفطرته، تدينا معتدلا لا يمكن أن ينساق للتشدد والتطرف، ومصدر التدين هو التمكن من الدين والفهم لروحه ومشروعه وفلسفته، خلافا للشعوب الطرفية جغرافيا مثل أفغانستان ومالي، فنحن في الأردن ومصر وحولها، رباط بيت المقدس، والمرجع في الدين وشؤونه، قبل همام سعيد وجماعته، ونحن الأقرب لهجة إلى عربية القرآن، ولا يمكن أن نتحول إلى طالبانيين أو تكفيريين.
مشروع الحروب الحديثة، قليلة التكلفة، يمكن أن ينجح في الدول الطائفية، ولكن الأردن لا ينتمي إلى هذه النوعية من الدول، وإذا كان الإخوان قدموا أنفسهم كطائفة مستقلة يمكن أن تقوم بخدمة المصالح بالوكالة، فإن الشعب الأردني بمختلف أطيافه سينبذهم وينحيهم جانبا.
لقد فقدت الجماعة عقلها، واعتلى المناصب واحتكر الرأي فيها من يعوزهم الذكاء والموهبة، وتراجع الجماعة أتى نتيجة إلى عمليات الاقصاء الداخلي التي مورست لمصلحة التيارات الأكثر تطرفا، والأقل انفتاحا، فانطلقت الجماعة تسعى إلى السلطة بشهوانية وأطلقت مكبوت للغرائزية والوحشية السياسية والأخلاقية.
مسجد الفتح يفضح الجماعة، ويسمها بصك الخروج، ويستدعي احتلال جهيمان للحرم المكي الشريف، ويدلل ذلك على افتقاد الإخوان لأي عقل سياسي أو حس وطني، فالمرشد الأخير والشاطر وأصحابهم، أعطوا مفاتيح الحركة لمحمود عزت، وهو ما يحول الملف من الشأن السياسي إلى الزاوية الأمنية، ويجعلهم يحاولون تكبير الحجر من أجل إثارة الرعب في قلوب الأردنيين، ولكنهم مخطئون وواهمون، ولن يسحبوا الأردنيين إلى ركنهم القصي والمعتم، فعمان لم تتحول إلى هانوي، ولن تتحول بالتأكيد إلى قندهار.