في الخمسينيات وحتى الستينيات، كان الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني مطروداً من وطنه، شحات، يبحث عن لقمة العيش، وبقجة الوكالة، وأرضه ممزقة، ومحكوما من قبل ثلاثة أنظمة : الاحتلال في 48، ومصر في القطاع، والأردن في الضفة، ومع ذلك شق رواده طريقهم، وصاغوا برنامجهم، وشكلوا تنظيماتهم، واخترعوا أدواتهم وقطعوا شوطاً كبيراً على طريق استعادة ما هو مسلوب منهم، فاستعادوا هويتهم الوطنية المبددة، ووحدوا تمثيلهم ومؤسساتهم، وانتزعوا الاعتراف العربي والدولي، بمنظمة التحرير، كممثل شرعي وحيد لهم، وناطق بلسانهم، ومعبر عن إرادتهم وتطلعاتهم وحقوقهم، وتلك كانت المحطة الأولى، ولولاها، لولا ولادة الكفاح المسلح من المنفى، والصمود والإصرار على النضال ومواصلة العمل، لما تحقق الإنجاز في الهوية والتمثيل والاعتراف العربي والدولي، بدءاً من الستينيات بتشكيل منظمة التحرير أيار 1964، والانطلاقة الأولى في الفاتح من كانون ثاني 1965، ومعركة الكرامة آذار 1968، وانتهاء بالسبعينيات ودخول منظمة التحرير بصفة مراقب إلى الأمم المتحدة.
وانتقلوا إلى المحطة الثانية التي تمثلت بالانتفاضة الأولى العام 1987 على أرض الوطن وليس من خارجه، كما كان خلال سنوات المحطة الأولى، ضد الاحتلال، فحققت الانجاز الثاني المتمثل بالاعتراف الإسرائيلي الأميركي بالعناوين الثلاثة : بالشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير، وبالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى أرضية هذا الاعتراف ( اتفاق أوسلو 1993 ) جرى 1- الانسحاب الإسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية ( غزة وأريحا أولاً )، و 2- عودة أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني إلى الوطن، و3- ولادة السلطة الوطنية من صناديق الاقتراع، كمقدمة ضرورية لقيام مؤسسات الدولة الوطنية، وبذلك أنجزت المرحلة الثانية بنقل الموضوع الفلسطيني وعنوانه، برمته، من المنفى إلى الوطن، باستثناء قضية اللاجئين، وشكل ذلك نقلة نوعية بشكل ومضمون الصراع بعد أن كان الصراع في المنفى : صراعا أردنيا فلسطينيا، وسوريا فلسطينيا ولبنانيا فلسطينيا، وفي بعض الأحيان مع العراق ومصر بشكل أو بآخر، أي أن الصراع كان في الجانب العربي بين الفلسطيني وشقيقه العربي، بصرف النظر من يتحمل مسؤولية هذا الصراع، ولكن في كل الأحوال كان الفلسطيني يدفع الثمن من وقته ودمه وعرقه وجهده، والعرب أيضاً لم يسلموا من شر دفع الثمن والتناحر وتضارب المصالح.
أما اليوم وعلى أرض الوطن المحتل، فقد بدا الصراع واضحاً جلياً، بين الشعب الفلسطيني من طرف وعدوه الوحيد من طرف آخر، لأن الشعب الفلسطيني لا عدو له، سوى عدو واحد : إسرائيل التي تحتل أرضه وتنهب حقوقه وتدوس على كرامته، وتحول الأشقاء جميعهم إلى أدوات مساندة وروافع داعمة لنضاله على أرض وطنه لاستعادة كامل حقوقه الثلاثة : في المساواة في مناطق 48، والاستقلال لمناطق 67، والعودة للاجئين .
وكانت المحطة الثالثة المتمثلة بالانتفاضة المسلحة الثانية العام 2000، التي أرغمت العدو الإسرائيلي وجيش الاحتلال وشارون على ترك قطاع غزة، بالانسحاب العام 2005، وإزالة المستوطنات وفكفكة قواعد جيش الاحتلال، ليحكم الفلسطيني نفسه لأول مرة، وهي نقلة نوعية ثالثة استكمالاً للتمثيل المستقل وعودة المؤسسات إلى الوطن، تُوجت بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الثانية، والتي فازت بها حماس بالأغلبية البرلمانية العام 2006، ولكن الشعب الفلسطيني بدلاً من أن يقدم قطاع غزة نموذجاً للسلطة الوطنية، والتعددية، والديمقراطية، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وتداول السلطة، قدم نموذجاً متخلفاً من الحكم الذاتي الأحادي وسيطرة اللون الواحد والحزب الواحد، في الانقلاب العسكري الدموي الذي نفذته حركته حماس بدعم وتغطية من قبل حركة الإخوان المسلمين، التي قدمت نموذجاً للحكم والسيطرة، يفتقد للديمقراطية والتعددية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، مثلما يفتقد للبرنامج الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتلبية الحاجات الأساسية والضرورية من تعليم وصحة وسكن وإدارة وفرص العمل لأهالي القطاع الذين يستحقون بعد كل التضحيات التي قدموها والمعاناة التي عاشوها في ظل الاحتلال وتتواصل بشكل أسوأ في ظل الإدارة الإخوانية، منذ حزيران 2007، وحتى يومنا هذا، وهي لا تقل سوءاً عن ممارسات وسلوك حزب مبارك في مصر، ولجان معمر القذافي الثورية، وحزب زين العابدين بن علي في تونس، وحزب علي عبد الله صالح في اليمن، في الإدارة والفساد والقمع والعجز عن توفير العيش الكريم والكرامة والديمقراطية.
مما تقدم يعني بوضوح، لا لبس فيه أن محطات النضال الفلسطيني الثلاث، هي التي أدت إلى تحقيق الإنجازات وهي التي صنعت طاولة المفاوضات وفرضتها على العدو، وأن ما فعله الشعب الفلسطيني وما حصل عليه تم نتيجة تضحياته، وليس بفعل مفاوضاته، رغم أهميتها وضرورتها، ولكنها حصيلة النضال وليس حصيلة القرارات.
h.faraneh@yahoo.com