في القرى المصرية أسطورة تتعلق بماكينة الطحين التي لا يمكن أن تلين آلاتها وتعمل إلا بعد أن يجز سيرها الناقل للحركة رأسًا ليتزيت بالدم، وعبثًا يفتتح أصحاب ماكينة الطحين مشروعهم بجز رقبة ثور، لكن الماكينة لا تتنازل عن الدم البشري، تتظاهر بالعمل و لا تلبث أن تستغل غفلة عامل تشغيل فتخطف عنقه أو غفلة أم عن طفلها فيسقط فوق السير الطويل المشدود بين الوابور والحجر الضخم الذي يديره.
بالقراءة اكتشفت وجود الأسطورة ذاتها حول تعطش الآلة الجديدة للدم في غير بلد عربي وفي ثقافات غير العربية، وعرفت كيف كان صغار الآخرين مثلنا، يخشون الاقتراب من هذا المكان المسحور.
ومن حسن أو سوء الحظ أن هذه المخاوف لا تحكمنا دائما، وإلا ما ذهبت الشعوب العربية الحية باتجاه ربيع الحرية دون أن تأبه إلى القربان الذي تطلبه ماكينات الثورة. لم يكن هناك مفر من هذه الرحلة في الحقيقة لأن الديكتاتورية أغلقت باب التفاوض بصلابة كلبية. ووسط الصخب والعنف الذي اتجه إليه الربيع كانت هناك المقارنات الخجول بين ما يجري عندنا وبين الثورة ‘الفرنسية’ التي يعدها الكثيرون مثالاً.
المقارنة ليست رفاهية أو زائدة عن الحاجة، بل نبتغي من ورائها فهم ما يجري وما صار بلا اسم كما في سورية مثلاً. ما الفروق في الأجواء السابقة على الثورة التي قد تحسب لصالح ربيعنا أو ضده؟ ما الفروق في طبيعة الزمن أو طبيعة القوى الثائرة وطبيعة السلطة هنا وهناك لكي نعرف مقدار الزيت الأحمر الذي ستحتاجه ثوراتنا لتزييت سيورها؟ وقد يبلغ بنا اليأس حد الشطط فنسأل: وهل نحن بحاجة إلى الحرية كما كان الفرنسيون يحتاجونها؟!
قامت الثورة الفرنسية على أساس نظري واضح استمر قرونًا، من إيتيان ديلا بيوسي (1530-1563) صاحب ‘مقالة في العبودية الطوعية’ إلى العديد من مفكري قرن العقل السابق للثورة الفرنسية بين نهايات القرن السابع عشر إلى نهايات الثامن عشر متوجًا بجان جاك روسو (1712- 1778) الذي كتب ‘العقد الاجتماعي’ أنضج رؤية للحرية الطبيعية والحرية السياسية وأشكال الحكم حتى الآن، ومع ذلك عاشت الثورة الفرنسية قرنًا دمويًا (بالتحديد تسعين عامًا).
عقد روسو الاجتماعي هو الأب الفكري المشرف للثورة الفرنسية بما ينطوي عليه من تماسك منطقي وأخلاقي، فما الوقت الذي يمكن أن يحتاجه الربيع العربي كي يستقر، علمًا بأنه انطلق بلا أب ولكن بحدس وتوق شبابي إلى الحرية.
لا شيء قبل الربيع إلا القليل من الاستقامة التي ينقصها تماسك الفكر وعمقه والكثير من الرقاعة الفكرية وتهافت الطرح التنويري الذي لم يحترم الحقوق الطبيعية والأصيلة في الحرية بشكل حقوقي مجرد، بل حارب المعارك الصغيرة الجزئية، غالبًا ضد الفصيل الديني بإيعاز من الحكم العسكري، أو العكس؛ فكان الفكر السياسي معلقًا بأحد سلاحي المقص اللذين يعملان معًا ضد الحرية!
هل سنحتاج إلى تسعين عاما أم أقل لنبلغ الاستقرار، بحكم نسبية الزمن واختلاف سرعاته في القرن الحادي والعشرين عنها في القرنين الثامن والتاسع عشر؟
حتمًا لن نحتاج إلى هذه المدة، طبقًا لسرعة الحركة في أيامنا، وطبقًا لرؤية مختلفة للحظة بدء الربيع ذاته، وهي غالبًا لحظة ثورة 1919 المصرية، وهي بالمناسبة تقع على بعد عقدين من كتاب عبد الرحمن الكواكبي ‘طبائع الاستبداد’ وهي ذات المسافة بين الموجة الأولى من الثورة الفرنسية (1789 – 1799) وبين العقد الاجتماعي (1762).
كان ‘طبائع الاستبداد’ أول كتاب جذري في العربية ينتصر للحرية استنادًا إلى الحق المطلق تأسيًا بكتاب روسو، وليس تلفيقًا لنهضة يرعاها المستبد كما في مؤلفات السابقين كالطهطاوي، على عظمة ما أداه لفكرة التقدم. وإذا أسسنا على كتاب الكواكبي الجذري تكون ثورة 1919 هي الموجة الأولى من ربيع العرب الذي مني بالانتكاسات عبر إخفاقات البرجوازية العربية التي تبعتها حقبة الانقلابات السورية، فحركة ضباط مصر عام 1952 التي استقرت باسم ‘ثورة’ في التاريخ لكن ما بناه عبد الناصر تبدد على يدي السادات ومبارك فكان الحراك المصري الكبير منذ بدايات الألفية الثالثة ضد كل مظاهر الظلم التي ثار ضدها الضباط عام 1952 وحول المثال المصري كانت التنويعات في عديد من البلاد مثل السودان والجزائر واليمن والمغرب وتونس.
لدينا إذًا قرن من الحراك يوازي ما استغرقته الثورة الفرنسية بفارق قرن في التوقيت! الثورة المصرية انتهت بإصلاح دستوري في 1923 وهي ذات المدة التي استغرقتها الثورة الفرنسية التي ركزت في السنوات الثلاث الأولى على إعلان حقوق الإنسان وإصلاح البرلمان في وجود الملك قبل أن يتم إعدامه في الموجة الثانية التي استهلكت فيها الثورة دماء نحو أربعين ألفًا فكان ارتفاع الكلفة البشرية دافعًا لتقويض الجمهورية وإعادة الديكتاتورية الملكية برعاية الجيش، طلبًا للاستقرار!
ولم تنته القصة عند هذا الحد على النحو المعروف تاريخيًا، حيث استمر التململ قرنًا من التقدم والانتكاسات التي تعيد تزييت الآلة بدم كان دائمًا أكبر مما تستهلكه الآلة الثورية العربية، لكننا دفعنا فرق الدم في الاغتيالات والقتل تحت التعذيب والاختفاءات الغامضة، ولم تزل أمامنا سنوات صعاب، لكننا سنتحرر في النهاية، فأسوأ ما في التاريخ أن تجاربه المؤلمة لا تمنع وقوع المزيد من الآلام، وأفضل ما فيه أن قوانينه تصدق في النهاية على كل البشر.
بالقراءة اكتشفت وجود الأسطورة ذاتها حول تعطش الآلة الجديدة للدم في غير بلد عربي وفي ثقافات غير العربية، وعرفت كيف كان صغار الآخرين مثلنا، يخشون الاقتراب من هذا المكان المسحور.
ومن حسن أو سوء الحظ أن هذه المخاوف لا تحكمنا دائما، وإلا ما ذهبت الشعوب العربية الحية باتجاه ربيع الحرية دون أن تأبه إلى القربان الذي تطلبه ماكينات الثورة. لم يكن هناك مفر من هذه الرحلة في الحقيقة لأن الديكتاتورية أغلقت باب التفاوض بصلابة كلبية. ووسط الصخب والعنف الذي اتجه إليه الربيع كانت هناك المقارنات الخجول بين ما يجري عندنا وبين الثورة ‘الفرنسية’ التي يعدها الكثيرون مثالاً.
المقارنة ليست رفاهية أو زائدة عن الحاجة، بل نبتغي من ورائها فهم ما يجري وما صار بلا اسم كما في سورية مثلاً. ما الفروق في الأجواء السابقة على الثورة التي قد تحسب لصالح ربيعنا أو ضده؟ ما الفروق في طبيعة الزمن أو طبيعة القوى الثائرة وطبيعة السلطة هنا وهناك لكي نعرف مقدار الزيت الأحمر الذي ستحتاجه ثوراتنا لتزييت سيورها؟ وقد يبلغ بنا اليأس حد الشطط فنسأل: وهل نحن بحاجة إلى الحرية كما كان الفرنسيون يحتاجونها؟!
قامت الثورة الفرنسية على أساس نظري واضح استمر قرونًا، من إيتيان ديلا بيوسي (1530-1563) صاحب ‘مقالة في العبودية الطوعية’ إلى العديد من مفكري قرن العقل السابق للثورة الفرنسية بين نهايات القرن السابع عشر إلى نهايات الثامن عشر متوجًا بجان جاك روسو (1712- 1778) الذي كتب ‘العقد الاجتماعي’ أنضج رؤية للحرية الطبيعية والحرية السياسية وأشكال الحكم حتى الآن، ومع ذلك عاشت الثورة الفرنسية قرنًا دمويًا (بالتحديد تسعين عامًا).
عقد روسو الاجتماعي هو الأب الفكري المشرف للثورة الفرنسية بما ينطوي عليه من تماسك منطقي وأخلاقي، فما الوقت الذي يمكن أن يحتاجه الربيع العربي كي يستقر، علمًا بأنه انطلق بلا أب ولكن بحدس وتوق شبابي إلى الحرية.
لا شيء قبل الربيع إلا القليل من الاستقامة التي ينقصها تماسك الفكر وعمقه والكثير من الرقاعة الفكرية وتهافت الطرح التنويري الذي لم يحترم الحقوق الطبيعية والأصيلة في الحرية بشكل حقوقي مجرد، بل حارب المعارك الصغيرة الجزئية، غالبًا ضد الفصيل الديني بإيعاز من الحكم العسكري، أو العكس؛ فكان الفكر السياسي معلقًا بأحد سلاحي المقص اللذين يعملان معًا ضد الحرية!
هل سنحتاج إلى تسعين عاما أم أقل لنبلغ الاستقرار، بحكم نسبية الزمن واختلاف سرعاته في القرن الحادي والعشرين عنها في القرنين الثامن والتاسع عشر؟
حتمًا لن نحتاج إلى هذه المدة، طبقًا لسرعة الحركة في أيامنا، وطبقًا لرؤية مختلفة للحظة بدء الربيع ذاته، وهي غالبًا لحظة ثورة 1919 المصرية، وهي بالمناسبة تقع على بعد عقدين من كتاب عبد الرحمن الكواكبي ‘طبائع الاستبداد’ وهي ذات المسافة بين الموجة الأولى من الثورة الفرنسية (1789 – 1799) وبين العقد الاجتماعي (1762).
كان ‘طبائع الاستبداد’ أول كتاب جذري في العربية ينتصر للحرية استنادًا إلى الحق المطلق تأسيًا بكتاب روسو، وليس تلفيقًا لنهضة يرعاها المستبد كما في مؤلفات السابقين كالطهطاوي، على عظمة ما أداه لفكرة التقدم. وإذا أسسنا على كتاب الكواكبي الجذري تكون ثورة 1919 هي الموجة الأولى من ربيع العرب الذي مني بالانتكاسات عبر إخفاقات البرجوازية العربية التي تبعتها حقبة الانقلابات السورية، فحركة ضباط مصر عام 1952 التي استقرت باسم ‘ثورة’ في التاريخ لكن ما بناه عبد الناصر تبدد على يدي السادات ومبارك فكان الحراك المصري الكبير منذ بدايات الألفية الثالثة ضد كل مظاهر الظلم التي ثار ضدها الضباط عام 1952 وحول المثال المصري كانت التنويعات في عديد من البلاد مثل السودان والجزائر واليمن والمغرب وتونس.
لدينا إذًا قرن من الحراك يوازي ما استغرقته الثورة الفرنسية بفارق قرن في التوقيت! الثورة المصرية انتهت بإصلاح دستوري في 1923 وهي ذات المدة التي استغرقتها الثورة الفرنسية التي ركزت في السنوات الثلاث الأولى على إعلان حقوق الإنسان وإصلاح البرلمان في وجود الملك قبل أن يتم إعدامه في الموجة الثانية التي استهلكت فيها الثورة دماء نحو أربعين ألفًا فكان ارتفاع الكلفة البشرية دافعًا لتقويض الجمهورية وإعادة الديكتاتورية الملكية برعاية الجيش، طلبًا للاستقرار!
ولم تنته القصة عند هذا الحد على النحو المعروف تاريخيًا، حيث استمر التململ قرنًا من التقدم والانتكاسات التي تعيد تزييت الآلة بدم كان دائمًا أكبر مما تستهلكه الآلة الثورية العربية، لكننا دفعنا فرق الدم في الاغتيالات والقتل تحت التعذيب والاختفاءات الغامضة، ولم تزل أمامنا سنوات صعاب، لكننا سنتحرر في النهاية، فأسوأ ما في التاريخ أن تجاربه المؤلمة لا تمنع وقوع المزيد من الآلام، وأفضل ما فيه أن قوانينه تصدق في النهاية على كل البشر.