المناضلون والأحرار هم قلب الأمة النابض والبوصلة التي تشير إلى جادة الصواب. وهذا ينطبق بشكل كبير وإن كان بدرجات متفاوتة على العديد من المناضلين والأحرار العرب على قلتهم ومنهم عبد الباري عطوان.
لقد تآمر على عبد الباري عطوان وعلى الخط الذي تمثله جريدة القدس العربي دول عديدة وقوى سياسية ومجموعات مالية عربية على مدى العقود الثلاثة الماضية لشراء ذمة الجريدة أو كسر إرادتها أو لوي ذراعها أو تدميرها والقضاء عليها . ومسيرة القدس العربي كانت حافلة بتلك المحاولات وإن كان بدرجات متفاوتة .
لقد اتّهم البعض عبد الباري بالانحياز أحياناً لهذه الجهة وأحياناً لتلك وكأن المطلوب منه أن يكون إنساناً على الهامش بلا رأي أو موقف حتى لا يفقد طهارته الوطنية. كلام عجيب غريب لا يصدر إلا عن جاهلين في الإعلام الهادف، أو أصحاب مواقف مسبقة الصنع يبحثون في أكوام القمامة السياسية عن خطأ ولا يستطيعون أن يروا الصواب حتى لو كان أمام أعينهم.
عبد الباري عطوان لم يكن نبي عصره ولم يكن معصوماً عن الخطأ . كان وما زال إنساناً عادياً يصيب ويخطىء. لكن الفرق أنه إنسان حر وكرامته السياسية تفوق في أهميتها بالنسبة له أي مكاسب مادية أو إغراءات يمكن أن تُعرض عليه.
عاشت جريدة القدس العربي عقودها القليلة على الحافة. أحياناً كانت إدارتها تتمكن من دفع الرواتب في موعدها وأحياناً أخرى كثيرة متأخرة عن موعدها. وبالطبع كان السبب في ذلك الحصار الذي فُرض عليها من خلال الامتناع عن نشر الدعايات والإعلانات على صفحاتها بالإضافة إلى منع دخولها إلى العديد من الدول العربية التي ارتأت فيها خطراً عليها وعلى سياساتها.
كان رد القدس العربي على تلك الهجمات ممارسة مزيد من الاقتصاد في النفقات والرواتب والتعيينات إلى الحد الذي لم يزد فيه عدد موظيفها في أي وقت عن عشرين شخصاً يعملون في مكاتب تبعث في واقعها وأثاثها على الحسرة، في الوقت الذي تضيع فيه أموال العرب على موائد القمار بملايين الدولارات يومياً . وحتى مكتب عبد الباري نفسه كان انعكاساً لواقع الحال. أثاث مكتبه لا يصلح للبيع وإن كانت أجواءه تفوح بعبق الكرامة والعزة والقلم الحاسم. وكنت ، مثلاً، عندما أزوره في مكتبه أقف أكثر مما أجلس لأن الوقوف أكثر راحة من الجلوس على تلك المقاعد.
كثيراً ما كنت أندهش من بساطة مطالب عبد الباري. كان ما يحبه بسيط وغير مكلف . وعندما كنا نخرج للعشاء سوياً، كانت اختياراته أقرب إلى العقوبة منها إلى العشاء. وباستثناء الرفقة الممتعة والحديث الذي لا ينضب من القلب إلى العقل كان كل شيء آخر بسيط من اختيار المطعم إلى اختيار الطعام.
ترك عبد الباري جريدة القدس العربي وهو لا يملك شيئاً بمفهوم "الخميرة" التي يمكن أن يتكأ عليها في الأيام الصعبة، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يكون من أصحاب الملايين لو قال "لهم" كلمة "نعم"، ولكنه لم يقلها.
أنا لا أدافع عن عبد الباري فهو لا يحتاج لدفاع ولكنني أعبر عن غضبي على هذا الواقع المرير الذي نعيشه والذي تُقلب فيه الموازين فيصبح الخطأ هو الصواب والعبد هو السيد والحر هو المقهور.
قرأت مقال الوداع الذي كتبه عبد الباري بقلب مقهور لأنني لامست المقولة العظيمة المؤلمة بأن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة". لقد عاصرت بدايات هذه الأزمة الصامتة التي عصفت بعبد الباري منذ عدة شهور . وأنا متأكد أن تفاعلاتها ابتدأت قبل ذلك بكثير. وبالرغم من كل الجهود التي بذلت لإحتواءها ، إلا أن يد الظلم وجبروت المال كانا أقوى وكان على عبد الباري أن يغادر منعاً للإفلاس القهري لجريدة القدس العربي وحفاظاً على حقوق العاملين فيها ومستقبل عائلاتهم.
وأخيراً إذا كان عبد الباري ممنوعاً من الكتابة في القدس العربي الآن، فإنه يجب التعامل مع هذا الوضع باعتباره استراحة المحارب وليس قضاءً لا مفر منه، وعلى جميع كتابها الاستمرار في الكتابة حتى تبقى القدس العربي هي جريدة العرب إلى أن تعود الأمور إلى نصابها السليم، أو تصبح جريدة القدس العربي ذكرى جميلة في زمن رديء.