لم يترك المرشد العام محمد بديع في خطابه في ساحة رابعة العدوية في القاهرة، مكاناً للتسويات والمصالحات ... فقد قطع "شعرة معاوية” ودفع المواجهة بين الإخوان وخصومهم، إلى "حافة الهاوية”، أو بالأحرى، نقطة اللاعودة، وهو بعد أن أمر أنصار الجماعة ونشطاءها البقاء في الميادين حتى عودة الرئيس مرسي إلى القصر الجمهوري محمولاً على الأعناق، رسم لنفسه وجماعته، هدفاً لا يمكن تحقيقه إلا بتكسير إرادة ( ورؤوس) غالبية المصريين ومؤسستهم العسكرية والأمنية ... وأحسب أن هذا ليس من السياسة ولا من الحكمة في شيء، ولقد دفع المصريون عشرات القتلى ومئات الجرحى، كعربون أول من الثمن الذي سيتعين عليهم دفعه، بعد دعوات "الشهادة” و”بذل الأرواح والدماء”، التي صاحبت استحضار بعض الأكفان إلى ميادين التظاهر "السلمي”؟!
دفع المرشد المواجهة إلى ذروة "المفاصلة” بين الجماعة وحلفائها من الإسلاميين وحدهم، في مواجهة بقية أطياف المجتمع المصري ومكوناته، فضلاً عن مؤسسات الدولة من عسكرية وأمنية وقضائية وإعلامية ومدنية ... جعل من جماعته بؤرة استقطاب من لون واحد فقط، فيما بقية الأولوان والأطياف، تصطف على المقلب الآخر من المعادلة المصرية ... وأحسب أن عاقلاً ما كان يرتضي للإخوان (أو يرتضون لأنفسهم) مثل هذا التصنيف والفرز: الجماعة في مواجهة الجميع.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد صدر "أمر العمليات” لكافة فروع الإخوان وتنظيماتهم خارج مصر، للانتصار إلى الجماعة الأم في مهد الجماعة ووطنها الأول ... فرأينا التظاهرات والاعتصامات ووسائل الإعلام المحسوبة عليها، تصدع بما تؤمر ... من أنقرة وإسطنبول وانتهاء بعمان وغزة، مروراً بكابول وتونس والرباط وغيرها من ساحات العمل الإخواني وميادينه، فأية رسالة يُراد إيصالها؟ ولمن؟
لن يكون لمصر جيش وطني إن عاد محمد مرسي إلى القصر الجمهوري رغم انف المؤسسة العسكرية... ولن تحتفظ مصر بأقباطها ولن يشعروا بمصريتهم إن عاد الرئيس المعزول لموقعه بعد الحملة الخارجة عن المألوف التي شنّها الرئيس الإخواني على رمزهم ورئيس كنيستهم ... وستهبط مكانة الأزهر ومفتيه الأكبر إلى مستوى جامع بلال بن رباح وشيخه الطريد أحمد الأسير، إن تم لمرسي وإخوانه ما أرادوا وتعاهدوا عليه أمس الأول، في ميدان رابعة العدوية ... وسنقرأ على التعددية والديمقراطية السلام، إن تم تكسير إرادة كل هذه الملايين التي خرجت في مختلف الميادين والساحات منذ قبل وأثناء وبعد الثلاثين من يونيو ... باختصار لقد وضع المرشد المصريين أمام معادلة إما نحن أو أنتم.
لقد قال في وصف حشد رابعة العدوية بأنه يمثل مصر بكل أطيافها، وأتحدى أن تجد مصرياً واحداً من خارج الحزب والجماعة والجماعة الإسلامية وبعض تيارات السلفية الحليفة للإخوان، انبرى خلال الأسابيع القليلة الفائتة، للدفاع عن الإخوان والرئيس ... إذ حتى الذين أخذوا على الجيش خطواته، من خارج الصف الإخواني– السلفي، لم نجد منهم، من يثمن أو يشيد بتجربة الإخوان في الحكم، وتحديداً رئيسهم المنتخب ... هي إذن، ومرة أخرى، معادلة الجماعة في مواجهة الجميع.
في المقابل، وبعد كل التأكيدات والهتافات والأيمان الغلاظ التي قطعها المرشد على نفسه وجماعته أمام الجموع المحتشدة في رابعة العدوية، لن يبقى من الإخوان سوى "بقايا صور” إن هم تراجعوا عن موقفهم، وجنحوا للتسويات والصفقات في إطار خريطة الطريق التي بدأت تنفذ في "مصر ما بعد مرسي” ... وأحسب أن قائمة للإخوان لن تقوم، إن هم عادوا إلى منازلهم، وشرعوا في تلبية دعوات الحوار والمشاركة والمحاصصة والنسب المئوية والتمثيل ... مثل هذا الأمر، سيكون ضربة قاصمة لسمعة الإخوان وهيبتهم وصدقيتهم ومستقبلهم.
لكأننا إذن، إمام قرار "انتحار جماعي”، يتخذه المرشد العام في لحظة غضب وانفعال شديدين ... كنا سنفهم الغضب ونقدر الانفعال، لولا أن الرجل قد قيّد نفسه وجماعته بهدف كرره عشرات المرات: الرئيس خط أحمر، وكل ما دونه قابل للتفاوض والحوار والمساومة ... وستكون لهذا القرار تداعيات على أمن مصر واستقرارها وسلمها الأهلي، يصعب التكهن بها، وما حصل في الساعات العشر التي أعقبت الخطاب، هزّ مصر، ورسم ملامح السيناريوات السوداء التي قد تنتظرها.
قد يراهن البعض على "إصلاحية” الإخوان و”براغماتيتهم”، وهم أصحاب تاريخ طويل في التنقل بين الخنادق والتحالفات والمحاور المتناقضة (نميري في السودان، والمجلس العسكري في مصر، والولايات المتحدة في زمني الحرب الباردة واليوم، ومعهم في مجلسهم الانتقالي في العراق، ومع الشيوعيين والبعثيين والقوميين والحكومات العرفية) ... بيد أن طبيعة المعركة التي يخوضونها اليوم، تبدو من وجهة نظرهم، معركة حياة أو موت، ليس على مستوى مصر فحسب، بل وعلى مستوى المنطقة برمتها كذلك، ما يقلل من هوامش "البراغماتية” و”المناورة” خصوصاً بعد أن دفع خطباء رابعة العدوية، وعلى رأسهم المرشد، الصراع مع "الآخر” إلى مستوى "وجودي” غير مسبوق.
خسر الإخوان الحكم في مصر، ما يؤذن بخسارات متلاحقة لهم في الحكم والمعارضة في غير دولة ومجتمع في الإقليم ... بيد أن ردهم على خسارة الحكم، من حيث طبيعته وانفعالاته وشعاراته، قد يلحق بهم خسارات أكبر وأفدح على مستوى الشارع وعلاقاتهم ببقية المكونات السياسية والاجتماعية ... ولقد كان يتعين على الإخوان، أن يتبصرا في خياراتهم، السيئة جميعها من دون ريب، لولوج الطريق الأقل سوءاً وضرراً منها، لكنهم لم يفعلوا، فكان الربيع العربي الذي اصطبغ بألوانهم الخضراء، وبالاً عليهم، بعد أن أخذهم على جناحيه، إلى علياء الحكم والسلطة أو على مقربةٍ منهما، ولمدة عام واحد فقط.