لثنائية المطرقة والسندان في حياتنا سواء تعلّق الأمر بالسياسة او الثقافة تجليات لا حصر لها، فهي أحيانا تتجلى في مفاضلة خرقاء بين المحتل والمستبد، وما اصطلح عليه تديين الدولة وعسكرتها، خلاصته ان هذا السجال مزمن بين الخوذة والعمامة.
وكان الطربوش في ما يرمز اليه من خلال ادبيات النصف الأول من القرن العشرين هو الأقنوم الثالث الذي خسر الجولة بين الخُوَذ والعمائم، لأنه رمز الأفندي او الانتلجنسيا القادمة من الطبقة الوسطى، والتي افرزت ابداعات شتى في مختلف مجالات الحياة الى ان بدأت تضمر وودعها كاتب عربي هو فوزي منصور بكتاب جميل حمل عنوان ‘وداعا للطبقة الوسطى’ وذلك في سياق مرحلة ازدهرت فيها الجنائز واطروحات الوداع على غرار ما كتبه حازم صاغية بعنوان وداعا للعروبة.
وفي مقالة سابقة ذكرت ما قاله الامام محمد عبده في لحظات احتضاره عن الدين الذي لا يخشى عليه من عدو يجهز عليه كما يخشى عليه من العمائم، خصوصا اذا كانت من مشتقات العمى ببعديه التاريخي والمعرفي.
بعد ما يقارب القرن نعود الى تلك الثنائية حيث الخيار الصعب هو بين رجل الدين والجنرال، حيث لا هامش للمثقف سواء سمي ليبراليا او مستقلا او تنويريا، فكيف تم حذف هذا الأقنوم الثالث مجددا؟ وهل راوحت انماط الانتاج والذهنية السياسية عقودا كما لو أنها نمت بشكل دائري، أم ان ما يحدث في هذا الواقع ليس من افرازاته الخالصة وغير المشوبة بما يهب عليها من عواصف تحمل غبارا مضادا لغبار الطلع والاخصاب، فما يهب الان هو تعقيم يحول دون اي اخصاب.
تديين الدولة هو افراغها الجذري حتى النخاع من مكوناتها المدنية، واغلاق للأبواب كلها وحظر على طرح الاسئلة كي لا تتحول الى مساءلات، ما دامت الاجابة المعلبة هي ذاتها حتى لو أفقدها التاريخ صلاحيتها وأصبحت سامة.
وعسكرة الدولة هي عودة غير حميدة الى حقبة الجنرالات الذين اقترفوا من الحماقات ما لا تقوى أية امة في هذا الكوكب على احتماله وبالتالي تسديد مديونياته.
لكن سطوة العمامة تحوّل الخوذة في بعض الأحيان الى مطلب شعبي، فهي الخلاص المرتقب حتى بالنسبة لهؤلاء الذين قرروا أن لا يلدغوا من جحر الخوذة مرتين.
هناك اذن حلقة مفقودة، وتبحث عن كاتب من طراز ديزموند موريس للعثور عليها كما فعل في كتابه ‘القرد العاري’، أين هو المثقف بمختلف ألقابه الآن وفي هذه المعادلة، وهل طُحن وسُحق تماما بين المطارق والسنادين أم ان دوره سُرق قبل ان يبدأ؟
الان المثقفون واشباههم في العالم العربي تنحوا جانبا وهم يتفرجون على صراع الخوذة والعمامة، والطربوش الذي اقترن بالتنويريين من رواد التحديث أدخل الى المتحف شأن الكثير من الأشياء التي توارت خلف بدائل جديدة، لهذا تبدو مهنة المثقف العربي الآن كما لو انها مهنة النسّاج او شاحذ السكاكين الذي يطوف القرى على عجلته، وهي مهن انقرضت ولم يبق منها غير طقوس فولكلورية.
لقد واصلت الخوذة نفوذها في هذا العالم العربي وبلا انقطاع، وكذلك العمامة، لكن الأقنوم الثالث والمنوط به التغيير واجتراح الطريق في الغابة والصحراء معا وهو المثقف لم يعد ماثلا في المشهد، رغم كل ما يصدر عنه موسميا على هامش الأحداث باعتباره صدى وليس صوتا وظلا وليس نورا !
****
أين ذهبت الاف الكتب وأضعافها من المجلات والصّحف التي صدرت منذ ما يقارب القرن وهي تبشر بالحداثة والتمدن واعلان القطيعة سايكولوجيا وابستومولوجيا مع الماضي الرّعوي.
لم يغرقها هولاكو في دجلة او اي ماء عربي.
ولو عاد حيا لما استطاع ان يفعل لأن ما تبقى من ماء لا يغرق حتى سلحفاة، وحين ألقيت مخطوطات الرائد المنسي عمر فاخوري في البئر في زمن العثمنة والتتريك اصطبغ الماء بلونها لكنه لم يعد صالحا للشرب.
اننا لأول مرة في التاريخ المعاصر نلد حراكا من طراز عجيب، فهو حتى الآن بلا رأس، وظهر في بعض الأقطار الأكثر عراقة كما لو انه كتلة صمّاء بلا ملامح، لهذا فالمعجزة الآن هي ان يلد الطفل أمه واباه معا، وليس معنى ذلك الدعوة الى سجال بيزنطي حول البيضة والدجاجة، بل السؤال الذي نتهرب جميعا منه هو ما الذي فعلته القابلة بجنين الشقاء والفقر والاستعباد الذي مكث في رحم هذه الأمة تسعة قرون وليس تسعة اشهر فقط؟
لقد جرّبنا الخوذة فخسرنا حتى الحرب رغم قبولنا الطوعي بجعل صوت الطبول أعلى من صوت النايات الشجية التي لاذ بها مثقفون عُراة من الدور الفاعل ومن القاعدة الشعبية التي تحمي، وتصون وتقاوم.
اما العمامة فحكايتها تطول، لأنها لا تخفي دائما تحتها شيخا كما يقول مثل شعبي قديم في مصر، ففي بعض الأمكنة والمراحل لعبت دورا تنكريا كما فعل الشيخ السادات مع نابليون بونابرت حين برر حملته باعتباره من أهل الكتاب، ولأن الخوذة تخشى مغادرة الثكنة لأنها فشلت في السياسة وادارة الأزمات فإن العمامة الآن بعد ان فاض دورها بدأت تنشق على نفسها، وثمة عمائم تقتل عمائم، فما كان في اطروحات الليبراليين أطيافا قابلة للتعايش اصبح طوائف قابلة للاحتراب ولا نقول التماوت لأن البعير وحده هو من اكتشف التماوت كي ينجو.
هذا تجَلٍّ آخر لثنائية السندان والمطرقة، وما بينهما لحم بشري، وكتب ومنجزات حضارية ومتاحف وآثار.
الطربوش بعد ان فقد دوره وأفرغ من الرأس الذي كان يحمله يتفرج الان على مباراة بالذخيرة الحية بين العمائم والخُوَذ، فهو ضد عسكرة الدولة الى حد ما وضد تديينها الى حد ما ايضا، وما هتف به من شعارات ضد الخوذة تحول الى هتاف مضاد واستنجاد ضد الافراط في التديين. انه هنا وهناك بالقدر ذاته، لهذا فهو عمليا ليس هنا وليس هناك على الاطلاق لأنه مجرد ورق مكتوب في مهب العواصف ذلك لأن من أسس التربويات الثقافية في عالمنا العربي النأي عن السياسة لأنها مليئة بالكمائن.
ان واحدة من اكثر العورات كشفا وافتضاحا تاريخيا الآن هي غياب الثقافة عن المشهد لأن ما ينوب عنها وعن المشتغلين فيها هو إما اعلام إعلاني أعمى او صليل السيوف في زمن الباتريوت بين العمائم المسلّحة والخوذ العزلاء !