أخبار البلد -
لدى توليه مقاليد رئاسة مصر، لأول مرة عبر صناديق الاقتراع، حذرنا في هذه الزاوية بالذات، من أن الرئيس «الإخواني» سيواجه محنة «الجلوس على مقعدين»، ذلك أن شعارات المعارضة «الثورةالدعوة» ستصطدم بمقتضيات الإدارة وحسابات «الدولة»، طال الزمن أم قصر، وهذا تحدٍ لم يجابهه الإسلاميون وحدهم لدى انتقالهم من المعارضة إلى السلطة، فقد سبقتهم إليه مختلف التيارات السياسية والفكرية في العالم العربي.
اليوم تبدو «محنة» الرئيس، «محنةً» للجماعة برمتها...ولعل في وقائع الأيام الأخيرة، ما يكفي لإلقاء أضواءٍ كاشفة على كثيرٍ من أوجه هذه «المحنة» وجوانبها...وعلى إخوان مصر، وبقية تيارات الإسلام السياسي العربية، من وصل منها إلى سدة الحكم ومن ينتظر، أن تشرع في إجراء تقييم عميق لخطابها وممارستها وتحالفاتها، إن هي قررت خوض غمار «اللعبة الديمقراطية» حتى نهاية المطاف.
في أزمة «الفيلم المسيء» بدا أن إخوان مصر، ينظرون للمشهد بعينين اثنتين...واحدة متجهة للشارع ومنافسيهم فيه من سلفيين ومتشددين تحديداً، حيث تتفاقم الخشية من مغبة خسارة الأصوات والحناجر...والأخرى مفتوحة على «أروقة الإدارة» ومؤسسات صنع القرار والعلاقات الدولية، حيث تتعقد هناك الحسابات وتتشابك، في تجسيد متجدد للمثل الشعبي عن «حسابات القرايا وحسابات السرايا».
عين إخوانية على «الداخل» وما يمور بداخله من غضب وإحباط وتيارات سياسية وفكرية وتدخلات إقليمية ودولية...وأخرى على «الخارج» الذي يرصد حكم الإخوان وتجربتهم الأولى فيه، وبعيون لا ترحم عموماً...فكان الأداء مضطرباً ومرتبكاً...وأسوأ ما يمكن أن تكون قد حصدته الجماعة هو خسارة الأمرين معاً، فتصبح كالمُنْبت، الذي لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى.
هذا الوضع «المُكلف» قد يستمر لبعض الوقت...لكنه لن يستمر طويلاً، وعلى الجماعة أن تختار طريقها، وكلما كان ذلك أسرع، كلما كانت الخسارات أقل، عليها وعلى مصر على حدٍ سواء...فأنت لا يمكنك أن تكون في الحكم مُتَملِكاً جميع أدواته بعد أن دانت لك مؤسساته بالطاعة والولاء، وتواصل في الوقت نفسه، اعتماد أساليب «الشارع» ووسائله وأدواته التي خبرتها واعتمدت عليها لتقويض حكم من سبقك...من ستقوض هذه المرة؟ سؤال طرح نفسه على قيادة الجماعة بلا شك، وهي تتخذ القرار بسحب الدعوة للتظاهر الإحتجاجي في طول «القطر المصري» وعرضه على الفيلم الهابط إياه.
لا يمكن للإخوان أن ينجحوا في حكم مصر، ولا يمكن لتجربتهم أن تتقدم، وهم يضعون نصب أعينهم «السباق المحموم» مع التيارات الإسلامية من على يمينهم...هذا سيشد الجماعة باستمرار إلى الوراء، في الوقت الذي هي أحوج ما تكون فيه، لما ومن يشدها للأمام...لا يمكن للجماعة أن تنجح في أكل نصف الرغيف والاحتفاظ به كاملاً...هذا سياسة قصيرة النظر والأجل، وعواقبها وخيمة عليهم وعلى البلاد والعباد عموماً.
إخوان مصر، لم يتصدروا تيار التنوير والتحديث الذي ضرب الحركات الإسلامية في تركيا وتونس والمغرب بأقدار متفاوتة...تعتمل في داخلهم اتجاهات وتيارات تنويرية، لم يحتملها «الجسم الشائج» للجماعة، ولفظ كثيراً منها خارجه (عبد المنعم أبو الفتوح نموذجاً)...وهم اليوم يحكمون أكبر بلد عربي، ومطلوب منهم أكثر من غيرهم من «الحركات الشقيقة» أن يغذوا الخُطى لتعميق خطابهم الحداثي، وتبديد طابعه المزدوج، وإجلاء العديد من «مساحاته الرمادية»، واستعادة الثقة التي فقدوا كثيرٍ منها جراء سياسات فيها من «الإستئثار» و»الأنانية» و»الإنتهازية» ما يكفي لتأجيج الشكوك وفض الشراكات وإضعاف الرهانات.
لم يعد القفز بخفة من موقف إلى موقف، أمرٌ مقبول، سيما في ظل غياب المراجعات السياسية والفكرية، التي تؤسس لخطاب مدني ديمقراطي إسلامي معاصر، يستأنف عصر النهضة والتنوير، قولاً وفعلاً، ولا يكتفي بشعار «نهضة مصر» الذي يشبه في سطحيته و»خوائه» شعار «الإسلام هو الحل»...فما كان مبرراً أو يمكن تبريره، والجماعة في المعارضة و»الشارع» والسجون، لا يمكن تبريره أو القبول به اليوم، والجماعة تتربع منفردةً على رأس هرم السلطة في مصر، وبقبول من بقية التيارات، مع أنها لم تحظ بثقة أكثر من ربع المصريين في الإنتخابات الأخيرة.
ما حصل في الأيام الأخيرة، قد يندرج في باب «رب ضارة نافعة»، إن توقفت الجماعة أمام ذاتها ومسؤولياتها، وإن نظرت لنفسها وموقعها ومكانتها في العالم العربي، من خارج «الماضي» وبطون كتبه القديمة، وإن نظرت للمستقبل» مستقبلها ومستقبل مصر، نظرة إصلاحية جذرية، تعتمد القراءة «خارج الصندوق»، متحررة من ابتزاز أكثر تيارات الشارع الأصولي تطرفاً، والتي ثبت بالملموس، أن لها أصدآء قوية في «الداخل» الإخواني...لكنه أيضاً قد يندرج في باب «رب ضارة ضارة»، إن أحجمت الجماعة على إدراك ما ينتظرها من مهام وتحديات، وتعاملت معها بمنطق العصر ولغة القرن الحادي والعشرين.