نور أحمد
ليس مجرّد ممثل، بل حالة درامية تمشي على قدمين. بيار داغر، ذاك الوجه الذي يحمل تناقضات الأبطال والتراجيديا معًا، استطاع أن يحفر اسمه في الذاكرة التلفزيونية والسينمائية بصوتٍ جهوري يفيض وقارًا، ونظرة تحمل أبعادًا لا تُقرأ من أوّل مشهد.
منذ بداياته، لم يسعَ إلى الظهور السهل أو الشعبية السريعة. لم يدخل من الأبواب الخلفية للشهرة، بل اقتحم المشهد الفني بأدوات ممثل مسكون بالحقيقة. وبين السياسة والتاريخ، بين الحب والخيانة، تنقّل بيار بجلدٍ فنيّ نادر، متقنًا الأدوار الصعبة التي تحتاج إلى بُنية نفسية متماسكة وصوت داخلي لا يخذل اللحظة.
في أدواره المتعدّدة، ارتدى جلد الرجل القوي الممزّق من الداخل، وجسّد ببراعة ورقة الشخصية السياسية والدبلوماسية دون أن يُفرّط بإنسانيته. شكّل حالة من التوازن بين الأداء الجسدي والانفعال الهادئ، كأنّه الممثل الذي يهمس بدلاً من أن يصرخ، فيُحدِث الأثر نفسه.
لكنّ بيار ليس فقط أسير الأدوار التاريخية أو الرمزية. هو أيضًا نجم المشاعر الهادئة، التيار الذي لا يُرى على السطح لكنه يُحدِث دوامات في العمق. في الدراما اللبنانية، لم يكن مجرّد "اسم”، بل حالة راقية من الالتزام والهيبة. لم يتورّط في الابتذال، ولم يركض خلف الدور السهل. اختار أن يبقى في الصفوف التي تحترم المهنة، ولو كلفه ذلك ابتعادًا عن الضوء أحيانًا.
صاحب الملامح الحادة، التي تُرهب وتُحبّ في آنٍ معًا، يُخفي خلف عدسة عينيه بحرًا من العاطفة غير المستهلكة. في لقاءاته القليلة، لا يصرّح كثيرًا، لكنه حين يتحدّث يضع جملة من ذهب. وفي حياته، كما في تمثيله، يُجيد الصمت النبيل أكثر من البوح المجّاني.
بيار داغر هو الممثل الذي نحتاج إليه في زمن يفيض بالضجيج والفراغ. هو الصخرة الهادئة التي تثبّت قيمة الأداء، وتعيد تعريف "الهيبة” خارج إطار الكاريكاتور. نجم يعرف كيف يقف على المسرح بلا أن يتكلّم، فيفرض حضوره. وكيف يدخل الكادر في لحظة، فيختطف الانتباه بصمته قبل كلامه.
إنه، باختصار، فنّان يُشبه دورًا لم يُكتب بعد…