في لحظة رمزية تُغلق فصلًا من فصول أعظم قصص النجاح المالي في العصر الحديث، أعلن مجلس إدارة شركة بيركشاير هاثاواي أن رئيسها التنفيذي الشهير وارن بافيت (94 عامًا) لن يعتلي المنصة في الاجتماع السنوي القادم، حيث سيتولى هذا الدور خليفته غريغ أبيل، فيما سيجلس بافيت إلى جانب أعضاء مجلس الإدارة في الصفوف الأمامية، محتفظًا برئاسة مجلس الإدارة بعد تنحيه عن الإدارة التنفيذية.
ويأتي هذا التطور بعد إعلان بافيت قبل أقل من شهر عزمه نقل دفة القيادة نهاية العام الجاري، في خطوة طال انتظارها من الأسواق والمستثمرين الذين لطالما ربطوا اسم بيركشاير باسمه، منذ أن اشتراها في ستينيات القرن الماضي عندما كانت مجرد شركة نسيج خاسرة.
بافيت، الذي بدأ رحلته الاستثمارية بشراء أسهم بيركشاير بسعر زهيد في عام 1962، حوّلها خلال عقود إلى إمبراطورية استثمارية تتجاوز سيولتها 350 مليار دولار، ويمتد نشاطها من التأمين والصحافة إلى الطاقة والسلع الاستهلاكية. واليوم، يتجاوز سعر سهم الشركة 760 ألف دولار، مقارنة بـ19 دولارًا حين تولّى زمامها.
من المال إلى المعنى: إرث يتجاوز الأرقام
لكن ما يميّز بافيت حقًا، لم يكن فقط نجاحه في تعظيم العوائد، بل رؤيته الأخلاقية للثروة. ففي عام 2006، أعلن عن نيته التبرع بـ99% من ثروته، التي تجاوزت مؤخرًا 160 مليار دولار، موجهًا معظمها إلى مؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية. قالها بوضوح: "المال يجب أن يعود إلى المجتمع الذي ساعدني في تكوينه".
وبدلًا من أن تتحوّل ثروته إلى إرث عائلي مغلق، عمل بافيت لسنوات على إعادة توزيعها لدعم التعليم، ومكافحة الفقر، وتحسين الرعاية الصحية، متبرعًا بما يناهز 57 مليار دولار حتى اليوم.
وهو لم يفعل ذلك في لحظة عاطفية، بل ضمن خطة ممنهجة وواقعية، بدأت قبل أكثر من عقدين، وامتدت لتشمل تأسيس مبادرة "تعهد العطاء" (The Giving Pledge) مع بيل غيتس، التي دفعت عشرات المليارديرات حول العالم إلى تخصيص نصف ثرواتهم على الأقل للعمل الخيري.
رأسمالية إنسانية في وجه السوق المتوحشة
قصة بافيت تُعيد تعريف النجاح المالي، وتثبت أن الربح لا يتعارض مع الضمير، بل يمكن أن يكون وسيلة لخدمة الإنسان. فرغم كونه من أغنى أثرياء العالم، لم يُعرف عنه أي تهرب ضريبي، أو نزاع عائلي شهير، أو مظاهر ترف فارغة. بل عبّر عن قناعته بأن إنفاق أكثر من 1% من أمواله على نفسه لن يزيد من سعادته، على عكس أثرها المحتمل في حياة الملايين.
في زمن تصدّر فيه الهوس بالأرباح مشهد المال والأعمال، يبرز بافيت كرمز لـ"الرأسمالية الأخلاقية"، حيث يصبح رأس المال أداة تغيير إيجابي، ويقدّم نموذجًا استثنائيًا في كيفية تحويل الثروة إلى تأثير ملموس على الأرض.
ختامًا: من وول ستريت إلى ضمير البشرية
مع اقتراب بافيت من ختام مسيرته التنفيذية، تبقى قيمه وفلسفته حية في كل من ألهمهم بنهجه، وفي كل مبادرة خيرية ساهمت ثروته في إنشائها.
ففي حين يتزاحم كثيرون على قوائم فوربس، يبدو أن الأثر الحقيقي يُقاس بما يتركه الإنسان في حياة الآخرين، لا بما يحتفظ به لنفسه.
بافيت أثبت أن الثروة الحقيقية ليست في الأرقام، بل في القيم التي تختار أن تخدمها.