قبل أيام، صدر كتاب لرئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بعنوان (Unleashed)، وهي مذكرات يكشف فيها تفاصيل وخفايا رئاسته للحكومة البريطانية. أحد القصص اللافتة في تلك المذكرات، ما كشفه جونسون بأن فريقه الأمني عثر على معدات تنصت عندما استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرحاضه الشخصي في عام 2017. حدث ذلك خلال لقائهما في مكتبه القديم، حين استأذن نتنياهو للذهاب إلى الحمام الموجود داخل "ملحق سري".
هذه قصة واحدة من عشرات أو مئات القصص، القديمة والحديثة التي تكشف مركزية التجسس في العقلية الأمنية والسياسية الإسرائيلية.
وثمّة وصف شهير لإسرائيل بأنها "جيش له دولة"، وهو تعبير يُستخدم للدلالة على مدى هيمنة الأمن والمؤسسة العسكرية على الدولة الإسرائيلية، وتأتي معهم أجهزة الاستخبارات في صنع السياسات الوطنية والأمنية والإستراتيجية في الداخل والخارج، ولهذا السبب حرصت إسرائيل منذ وقت مبكر على تفعيل الأنشطة الاستخباراتية لأفرادها وخلاياها منذ إنشائها، سواء في الدول العربية أو الأوروبية التي جاءت الهجرات اليهودية منها، فضلا عن بقية دول العالم.
ولأن إسرائيل تشكّلت في واقع سياسي وديمغرافي مخالف ومعادٍ لها في التوجهات والأفكار واللغة والدين والعرق، ويُنظر إليها على أنها مغتصبة للحقوق الفلسطينية خاصة والعربية عامة، فضلا عن دخولها في العديد من الحروب منذ إنشائها وحتى يومنا هذا؛ فإنها صنعت لنفسها شبكات واسعة من الجواسيس وأطلقتهم على المحيط العربي، ومن اللافت أنها تمكنت من اختراق أقوى وأهم حلفائها وهي الولايات المتحدة الأميركية كما سنرى.
إيلي كوهين الجاسوس الذي اقترب من قلب سوريا
ويأتي إيلي كوهين بصفته واحدا من أشهر وأخطر جواسيسها في ستينيات القرن العشرين على رأس القائمة، فقد وُلد كوهين في الإسكندرية عام 1924 لعائلة يهودية من أصل سوري، وخلال فترة شبابه في مصر انخرط في الأنشطة الصهيونية وانضم إلى منظمة الشباب اليهودي الصهيوني، حيث عَمل على تشجيع هجرة اليهود المصريين إلى فلسطين، كما بدأ في تلك الفترة بالتعاون مع شبكات تجسس صهيونية خصوصا مع منظمة يقودها الجاسوس "جون دارلينغ"، حيث قام بعدة عمليات تهدف إلى زعزعة استقرار مصر عبر استهداف المنشآت الأميركية.
وعقب حرب 1948، هاجرت عائلته إلى إسرائيل، بينما بقي إيلي في مصر مستمرا في أنشطته التي حاول فيها زعزعة الأمن، ولهذا السبب تعرض للاعتقال مرتين بسبب نشاطاته التجسسية، وبعد إطلاق سراحه عام 1956، هاجر أخيرا إلى إسرائيل عام 1957، وهناك بدأ تدريبه المكثف ليصبح جاسوسا محترفا؛ إذ تعلم اللهجة السورية وأتقن اللهجة المحلية لتوظيفها داخل البلاد، ودُرِّب على مهارات التجسس مثل استخدام الحبر السري والأجهزة اللاسلكية.
وفي عام 1961، غادر إيلي كوهين إلى الأرجنتين تحت هُوية جديدة باسم "كامل أمين ثابت"، وبوصفه رجل أعمال سوري. وبفضل جاذبية شخصيته وقدرته على بناء علاقات مع الجالية السورية في الأرجنتين، أصبح شخصية معروفة ومرموقة بينهم هناك، وبعد تكوين شبكة علاقات قوية قرر العودة إلى سوريا لتنفيذ مهمته التجسسية الرئيسية.
وصل كوهين إلى دمشق عام 1962، وعلى الفور شرع في بناء شبكة علاقات واسعة مع كبار المسؤولين السوريين وضباط الجيش وقيادات حزب البعث من الطبقة الأرستقراطية، وبفضل قدرته على إقناع الآخرين بصدقه، أصبح كوهين واحدا من المقربين للقيادة السورية العليا، وشارك في العديد من الاجتماعات الحساسة التي كانت تتعلق بالأمن القومي السوري، وتمكن من نقل معلومات مهمة إلى إسرائيل، بما في ذلك تفاصيل عن التحصينات العسكرية السورية في الجولان والخطط الدفاعية.
وخلال فترة عمله جاسوسا، أرسل كوهين رسائل مشفرة إلى الموساد بانتظام تحتوي على معلومات حسّاسة، مثل التحركات العسكرية السورية وصفقات الأسلحة التي أبرمتها سوريا مع الاتحاد السوفياتي، كما تمكّن كوهين من زيارة الجبهة السورية في الجولان وتصوير المواقع الدفاعية باستخدام كاميرا خفية في ساعة يده، وقد ساعدت هذه المعلومات إسرائيل لاحقا في حرب الأيام الستة عام 1967، حيث لعبت دورا مهما في تدمير الدفاعات السورية بسرعة بفضل بنك الأهداف والمعلومات المسبقة.
وبحلول عام 1965، بدأت السلطات السورية في الشك بنشاطات كوهين، وذلك بمساعدة من المخابرات السوفياتية والمخابرات المصرية التي كان لديها أرشيف وصور عن كوهين أثناء مقامه في مصر، وقد تعقّبت إشارات لاسلكية كان يرسلها كوهين إلى إسرائيل، مما أدَّى في النهاية إلى اكتشافه، وفي يناير/كانون الثاني 1965، ألقَت السلطات السورية القبض عليه متلبّسا أثناء إرسال رسالة، وبعد محاكمة سريعة حُكم عليه بالإعدام شنقا، وبعد فشل عشرات المحاولات من الوساطات للإفراج عنه، نُفِّذ الحكم في ساحة المرجة بدمشق في 18 مايو/أيار 1965، وعُلِّقت جثّته علنا تحذيرا وعبرة للآخرين.