في الحوار الإسرائيلي الداخلي تعتبر "لاهاي” منتهية وأدين المتهمون، وهم الشخصيات العامة غير المسؤولة، والتافهون الذين تحدثوا أمام العدسات بدون أي رقابة. "هناك ثمن للفم الكبير”، كتب في افتتاحية الجمعة في "هآرتس”. المبالغون يتهمون أيضاً أشرطة الفيديو التي تحتوي على أغاني الجنود، التي عُرضت في لاهاي. ليس مضمون الأغنية بل النشر ("لماذا يسمح لهم بنشر مثل هذه الفيديوهات”).
إذا كان يجب المحاكمة حسب هذا الخطاب السائد، فإن الدعوى في "لاهاي”، التي كما يبدو قدمت لأسباب لاسامية محضة، لم ترتكز إلا على تصريحات مثيرة للغضب من الوزراء والمغنين، الذين طالبوا بـ "إبادة” المدنيين في غزة. لو كانوا يقومون بكم الأفواه ولا "يلحقون ضرراً بالدعاية”، لما وصلنا إلى هذا الوضع.
التركيز على الجانب الخطابي صفة تميز الثقافة السياسية في إسرائيل، حيث نشأت فجوة متزايدة بين التصريحات والأفعال على مر السنين. ثقافة الشعبوية والغمز التي أتقنها نتنياهو أكثر من أي شخص آخر، تسمح لساستنا بالتعبير عن أنفسهم بدون حساب، مع معرفتهم أنه لا غطاء للتصريحات. في العرض البسيط، يطلقون وعوداً مثل "دمروا حماس” و”دمروا المحكمة العليا”، في حين أن أي شخص بالغ يتمتع بمعدل ذكاء معقول، يدرك أنها شعارات فارغة (باستثناء الذين يسألون "لماذا صوتنا لليمين وحصلنا على يسار” – هم توقعوا التنفيذ كما يبدو). الأمر الأكثر تعقيداً هو أنهم يهاجمون حماس بينما يضخون الأموال إليها أو للسلطة الفلسطينية، في الوقت الذي يعملون فيه معها، لأن الحياة الحقيقية معقدة أكثر من جرافة "دي9”.
بنفس الطريقة أيضاً، فإن حل كل المشاكل يكمن في المستوى اللفظي، كما يراه كثيرون. لو أننا "شرحنا” للعالم، لو تحدثنا بصورة أكثر جمالاً بقليل، لو أننا مدحنا جهاز القضاء في لاهاي وتنكرنا مثل منظمة "بتسيلم” في الوقت الذي نهاجمهم ونحن في البيت (الغمز والغمز) لما كانت اليوم في مشكلة.
لكن لدينا مشكلة، مشكلة كبيرة، هناك 23.708 مشكلة للدقة. ففي نهاية كل ادعاء لفظي، سواء كان تصريحاً قبيحاً لعضو الكنيست نسيم فاتوري أو خطاباً دعائياً رائعاً لوزارة الخارجية، ثمة جثث حقيقية في الخارج. هذا عدد القتلى الفلسطينيين في غزة حسب معطيات الأمم المتحدة. كثير منهم من المدنيين، من النساء والأطفال. هناك أيضاً 60.005 أصيبوا و1.9 مليون شخص، 85 في المئة من سكان القطاع، هجّروا من بيوتهم. لائحة الاتهام في لاهاي تقتبس تصريحات مثل تصريحات فاتوري ("يجب إحراق غزة”)، لكن مضحك الاعتقاد أن المحاكمة تجرى بسبب ذلك. هذه الاقتباسات استهدفت كما يبدو إثبات نوايا وأهداف إسرائيل في هذه الحرب. أساس الاتهام هو الواقع الماثل من غزة أمام العالم.
كل ذلك لا يعني أن شن إسرائيل للحرب غير مبرر – هو خطأ آخر سائد في الخطاب. القانون الدولي استهدف ترتيب شؤون الحرب وليس السلام – الطرق التي يسمح فيها بإدارة حرب عادلة. للأسف الشديد، المدعون والمدعى عليهم يسقطون في فخ خطابي للانشغال بالأقوال وبالأفلام في تويتر بدل مناقشة الواقع العسكري على الأرض والانشغال بأهداف الحرب (تدمير حماس؟ الردع؟ إطلاق سراح المخطوفين؟)، وبمسألة هل تفعل إسرائيل ما فيه الكفاية أو لا تفعل، من أجل تقليص المس بالأبرياء في الطريق لتحقيق أهدافها.
النقاش والدرس من الإجراءات في "لاهاي” لا يجب أن يتلخصا في "التوصل إلى كم الأفواه” أو "الشرح بشكل أفضل”، بل يجب أن يتلخصا في الادعاء بأن "الانتقام” من الأبرياء لا يعتبر خطة عمل، وأن الأعمال الفظيعة التي ارتكبها العدو لا تعطينا الرخصة للقيام بكل الردود.