كتب
المؤرخ اليهودي سالو بارون عام 1963 مقالاً يتحدث فيه عن الفكرة الخاطئة المتعلقة
باضطهاد اليهود والسردية التاريخية التي تظهرهم أكثر مجموعة من المجموعات العرقية
أو الدينية الأخرى في العالم على مر التاريخ تعرضت للاضطهاد، حيث يرى أنه
"حان الوقت لكسر نظرية تاريخ الدم، واعتماد وجهة نظر أكثر انسجاماً مع
الحقيقة التاريخية".
هذا المقال جاء ليظهر الزيف
ويتحدى مقولات أهم مؤرخي اليهود في القرن الـ19 التي تجعل من التاريخ اليهودي الذي
يتأسس على سلسلة كاذبة من المآسي وحلقات المعاناة وهي جزء من استراتيجية سلطة
الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته الاستعمارية، حيث يشكل الحزن والبكاء وتقمص
دور الضحية مرتكزاً أساسياً في البروباغاندا الإسرائيلية التي تحيط بها مشروعها
الاستيطاني وترى في تأسيس دولة إسرائيل نهاية "تاريخ الدموع والدماء
اليهودي" و"الشتات اليهودي" حول العالم كما يزعمون.
لقد انطلقت فكرة الدعاية
الصهيونية المواكبة للمشروع المؤسس لدولة الكيان منذ مؤتمر بازل عام 1897 على يد
الصحفي "ثيودور هرتزل" الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية؛ حيث كتب في
العدد الأول من أسبوعية الحركة الصهيونية "دي وولت" الصادر بتاريخ 3
يونيو/حزيران 1897 مقالاً يتحدث فيه على أن "هذه الصحيفة تكون درعاً للشعب
اليهودي، وسلاحاً ضد أعداء الشعب" وبهذا المنطق سار كل قادة الكيان
الإسرائيلي عبر الحقب الزمنية المتعاقبة، يعتمدون على الدعائية الإعلامية ووسائلها
المختلفة، يبثون في المجتمعات أكاذيب وسرديات تاريخية مزيفة تخدم أجندة الاحتلال
وتعزز أركان وجوده، ولعلهم نجحوا في إحاطة موضوع "المحرقة النازية"
بحقائق وأرقام مزيفة ضخمة صارت مؤسسة لمظلومية اليهود وخطاً فاصلاً لا يمكن تجاوزه
لدى الغرب وحتى البعض من العرب بدواعي معاداة السامية، على رغم وجود محاولات جادة
من بعض المفكرين والكتاب الغرب لإزالة تلك الملابسات التي أحاطت بها ومن أبرزهم
الكاتب الفيلسوف الفرنسي "روجيه غارودي" رحمه الله، في كتابه
"الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية".
وعلى هذا النحو من الدعاية
الإعلامية الصهيونية السوداء وبعد انفجار طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين
الأول طرحت الدعاية الصهيونية عبر الإعلام الغربي مجموعة من الأكاذيب ونشرها تتمثل
في قيام أفراد المقاومة الفلسطينية المسلحة بقطع رؤوس الأطفال اليهود المستوطنين
وقتل كبار السن من الرجال والنساء، الأمر الذي تبنته إدارة البيت الأبيض الأمريكي
واعتمدها في البداية الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاباته الرسمية دون أي تحليل
لمصداقية الخبر والمعلومات المقدمة إليه، ليتراجع عنها لاحقاً تحت تأثير الرأي
العام الذي كشف عن سخافة الادعاءات الصهيونية، كما تولى أيضاً بعض من الإعلام
البريطاني مهمة الدعاية الصهيونية، حيث أذاعت قناة "سي بي إس" عبر
مقدمها الشهير"جيف غلور" خبراً أنه شاهد مذبحة الأطفال الإسرائيليين على
يد رجال المقاومة، ثم نشرت بعض الصحف البريطانية أيضاً تلك الأكاذيب كصحيفتي
"ذا صن" و"التايمز" اللتين وضعتا عناوين تهويلية تتصدر
الصفحات الأولى من جرائدها كعنوان "المتوحشون يقطعون رؤوس الأطفال في
مذبحة" و"قطعت حماس حناجر الأطفال في مذبحة"؛ وبذلك حاول الكيان الصهيوني
اعتماد الدعاية لإظهار المقاومة الفلسطينية كمنظمة إرهابية وتبرير سلوكه الإجرامي
اللاحق على قطاع غزة وممارسة كل الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي.
لم تقف الدعاية الإعلامية
الصهيونية عند حدود ما تم نشره في البداية من أكاذيب وتزييف الحقائق وتزوير الواقع
فواكبت مختلف العمليات العدائية الإسرائيلية بالتبرير وخلق الحجج والمبررات
الدعائية لشرعنة السلوك الصهيوني الإجرامي ضد سكان قطاع غزة، ومن أخطرها ما تم الترويج
له عبر قنوات تلفزيونية بريطانية وأمريكية والمتعلق باستخدام المقاومة الفلسطينية
المستشفيات كدروع حمائية ومنصات عملياتية، وأنها حفرت أنفاقاً تحتها، كما نشرت
شبكتا "سي إن إن و"بي بي سي" أخباراً وأدلة زائفة عن استهداف
المقاومة للمستشفى "المعمداني" دون أي تحقيق أو تحليل إعلامي غير متحيز،
ثم استهداف مستشفى الشفاء واقتحامه لذات المبررات الكاذبة، وهي بذلك تروج للسلوك
المجرم دولياً المرتبط بقطع الإمدادات الإنسانية من دواء وغذاء ووقود، ويأتي ذلك
لإضعاف المقاومة التي تستغل ذلك لصالحها.
وبالجهة المقابلة من
الدعاية الإعلامية للمقاومة وعلى الرغم عدم وجود تكافؤ في الميزان الدعائي
والإعلامي مُنيت الدعاية الإعلامية الصهيونية بهزيمة نكراء وغرست شعوراً بالنكسة
لتباين الأطروحات والمبادئ التي يقوم عليها إعلام المقاومة الفلسطينية الصادق ومن
يعتمد على المعايير المهنية النزيهة من قنوات وصفحات إعلامية أخرى، حيث ظهر إعلام
المقاومة بمظهر الثابت والصادق دون مبالغة في نقل الأحداث والواقع على الأرض؛ ما
أعطاه المصداقية لدى شرائح واسعة من شعوب العالم التي تعزز أيضاً بانخراط قنوات
وشخصيات إعلامية عربية وغربية مشهورة في هذا المسعى، إذ شكلت رأياً عالمياً
مناهضاً للسردية الإسرائيلية، بالإضافة إلى ذلك التعامل الإنساني الذي أظهرته
المقاومة مع الأسرى الإسرائيليين، وكان من اللافت ما قامت به السيدة الإسرائيلية
بعد إطلاق سراحها وعند مصافحتها لرجال المقاومة التي أحدثت شروخاً عميقة ليس فقط
في الرواية الصهيونية بل أيضاً في الضمير العالمي والمجتمع الإسرائيلي الذي بات لا
يثق في سلطة الكيان ودعايته الإعلامية.
وعلى هذا المنحى من تصاعد الخط الإعلامي للمقاومة واختراقه للجدار الدعاية الصهيونية وتحطيم أسسها التي كانت في البداية هي المهيمنة على الدوائر الإعلامية الغربية ومؤثرة في القرار الرسمي استقطبت الجهود الإعلامية للمقاومة المدعومة بشكل ملحوظ من بعض القنوات والمنصات الإعلامية الأخرى، وعلى رأسهم شبكة الجزيرة، حيث باتت تلك المنصات هي المتفوقة والمستحوذة على الرأي العام العالمي والدولي وفتحت الباب واسعاً أمام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وامتلاكه لدولة مستقلة كباقي شعوب العالم وبروز أصوات رسمية وشعبية حادة تطالب بإخضاع سلطة الكيان الصهيوني للمساءلة القانونية لانتهاكه الممنهج للقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي دفع زعيم المعارضة الإسرائيلية "يائير لابيد" بالتحذير من تراجع التغطية الإعلامية التي تضعف السردية الصهيونية وتقوضها وتعمل على حصر سلطة الكيان في زاوية الاتهام.
كما أنه من الجدير بالذكر أن الشعوب المؤمنة بعدالة قضية الشعب الفلسطيني تضامنت مع شعوب الأمة العربية والإسلامية وساهمت بشكل مباشر في تشكيل رأي عام عالمي عبر منصات ووسائل التواصل الاجتماعي، واتخذت منها أداة لنقل الوقائع والمعلومات المسجلة والحية بالصوت والصورة سمحت بوصول الحقائق إلى الغالب الأعم من أفراد شعوب العالم وبينت زيف السردية الصهيونية وكشفت التلاعب الذي انتهجته في نقل الأحداث الكارثية الواقعة في قطاع غزة والضفة الغربية بل صارت محل سخرية، وأدرك العالم مدى فبركة أخبار الإعلام الإسرائيلي والغربي والتلاعب المقصود المدعوم من طرف أنظمة غربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، وبذلك أدرك المشاهد العالمي وبشكل واضح أن الدعاية الصهيونية استخدمت حيلاً إعلامية كأدوات للتأثير على الرأي العام الغربي والعالمي.
وبهذا الصدد فالتفوق الإعلامي للمقاومة على الدعاية الصهيونية وتناميه كانت له آثار واضحة على الأرض ومن أهم تلك النتائج المظاهرات الشعبية المستمرة في أغلب عواصم ومدن الدول الغربية، فضلاً عن العربية والإسلامية التي طالب فيها المتظاهرون بوقف دعم حكوماتهم للكيان المعتدي ووقف العدوان الذي دفع ببروز مناقشات جادة في بعض البرلمانات الأوروبية وتراجع القرار الرسمي الغربي، كما كان في بدايته، ونخص هنا بالذكر القرار الفرنسي الذي اتسم في البداية بالتصلب والمواجهة، بل دعا إلى تشكيل محور دولي لمكافحة الإرهاب كما سمى المقاومة الفلسطينية واتجه نحو تشكيل حلف دولي إنساني لدعم سكان قطاع غزة؛ مما جعل سلطة الكيان تظهر امتعاضاً من رسائل الرئيس الفرنسي ماكرون.
وكخلاصة، يمكن القول إن طوفان الأقصى والاستراتيجية التي جاءت بها فصائل المقاومة الفلسطينية فرضا واقعاً جديداً، ليس فقط على المستوى الإعلامي بل على صعيد الهيمنة التي كانت إحدى ركائز الاستراتيجية الصهيونية منذ بداية تأسيسه وامتدت إلى شرعية الوجود، فغياب فكرة الهيمنة لدى الكيان يعني بالضرورة نهايته؛ وهو أمر لم تتقبله الأنظمة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي دفعت بأسطولها البحري منذ اليوم الأول من الحرب، وأعطت الضوء الأخضر للكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، كما يزعمون، وبذلك هدم البروباغاندا الإسرائيلية سيزيح الستار عن الحقائق المحجوبة عن العالم الغربي، خاصة، وينهي أسطورة الكيان الذي لا يهزم بتفوقه العسكري والاستخباراتي الذي سينعكس على واقعنا العربي مستقبلاً، واضمحلال اتفاقات التطبيع، ذلك أن معركة طوفان الأقصى وما يريده الكيان من مخططات كشفت عن نواياه الخبيثة تجاه عالمنا العربي والإسلامي وبينت اعتماده على السرديات المزيفة في تضليل الرأي العام والتأثير فيه