أخبار البلد - ضاق قطاع غزة المحاصر على الفلسطينيين فلم يترك لهم مجالا للعمل ولحياة كريمة، ودفع العشرات منهم إلى البحث عن أي فرصة للعمل في الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل.
ويتطلب عمل أهالي غزة في إسرائيل تصاريح أمنية يصعب الحصول عليها أو حتى تجديدها، لكن العشرات منهم يسعون إلى امتلاكها، فهي بالنسبة إليهم شريان حياة جديد يمنحهم وأهاليهم معيشة أفضل رغم أنها أداة ضغط بيد إسرائيل تستغلها لتهدئة الصراع بينها وبين الفلسطينيين.
ويمكن أن يشير إبراهيم صليح إلى ثلاث لحظات سعيدة في حياته في قطاع غزة ألا وهي تخرجه من الجامعة وزفافه واليوم الذي حصل فيه العام الماضي على تصريح عمل لمدة ستة أشهر داخل إسرائيل.
كان التصريح عبارة عن قطعة صغيرة من الورق ملفوفة ببلاستيك واق تسمح للرجل البالغ من العمر 44 عاما بالعمل في محل بقالة في جنوب إسرائيل، حيث يكسب عشرة أضعاف ما يستطيع جنيه في غزة. ويعني المال الإضافي تعليما أفضل لأطفاله الستة، ووجبات عائلية أكبر تشمل المعجنات ولبنا بالفواكه وحليب الشوكولاتة.
إسرائيل تقرّ بأن تصاريح العمل تعدّ أداة قوية للمساعدة في الحفاظ على الهدوء. ويرى فيها منتقدوها أداة للسيطرة
ودون التصريح، كان سيتوجب عليه أن يسعى إلى الحصول على عمل بأجر زهيد داخل الشريط الساحلي الضيّق الذي يخضع لحصار إسرائيلي مصري معوق منذ استيلاء حماس على السلطة قبل 15 سنة. ومع معدل البطالة الذي يحوم حول 50 في المئة، قد يشمل العمل جمع الأنقاض الناتجة عن سنوات الصراع أو صيد الطيور لبيعها لمتاجر الحيوانات الأليفة.
وقال إبراهيم "إنه لا يضاهى. يساوي شهر واحد من العمل هناك ثلاث سنوات من العمل هنا”.
وتقر إسرائيل بأن التصاريح تعدّ أداة قوية للمساعدة في الحفاظ على الهدوء. ويرى فيها منتقدوها أداة للسيطرة.
وأصدرت إسرائيل ما يصل إلى 15 ألفا وخمسمائة تصريح عمل منذ العام الماضي، مما سمح للفلسطينيين مثل إبراهيم بالعبور من قطاع غزة والعمل في وظائف بأجور أعلى بكثير من تلك المتاحة داخل غزة. وهم من بين العمال الأوائل من غزة الذين عملوا رسميا داخل إسرائيل منذ سيطرة حماس على القطاع سنة 2007. كما أن لأكثر من 100 ألف فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة تصاريح مماثلة تسمح لهم بدخول إسرائيل للعمل أيضا.
وتمنح التصاريح إسرائيل شكلا من أشكال النفوذ على الفلسطينيين الذين يعتمدون عليها وعلى حماس. حيث يواجه حكام غزة المتشددون خطر إلقاء اللوم عليهم إذا أغلقت الحدود وأجبر العمال على البقاء في القطاع كما حدث في وقت سابق من الشهر الحالي خلال اندلاع العنف الأخير.
وتجنّبت حماس، التي خاضت أربع حروب ومعارك لا حصر لها مع إسرائيل على مر السنين، الجولة الأخيرة من القتال. ومن المحتمل أن يرجع ذلك إلى الحفاظ على التصاريح والاتفاقات الاقتصادية الأخرى مع إسرائيل التي وفرت شريان الحياة الاقتصادي للمنطقة.
وقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خلال الأسبوع الماضي عن ألف وخمسمائة تصريح إضافي "بشرط أن يظل الوضع الأمني هادئا”، مكررا شروط إصدار التصاريح.
وغالبا ما تصف إسرائيل التصاريح والإجراءات الأخرى التي توفر فرصا اقتصادية للفلسطينيين بأنها إجراءات حسن نية. وينظر إليها المنتقدون على أنها وسيلة أخرى للسيطرة، وهي جزء من الحكم العسكري الإسرائيلي المستمر منذ عقود على ملايين الفلسطينيين، ولا يظهر أي علامة على الانتهاء. وتعتبر إسرائيل حتى الأشكال السلمية للاحتجاج الفلسطيني تهديدا للنظام العام، وهو أمر قد يؤدي إلى إلغاء التصريح.
وقال مدير العلاقات العامة والإعلام في الغرفة التجارية بغزة، ماهر الطباع، إن تأثير التصاريح كان ضئيلا على الاقتصاد الأوسع في غزة، فهو لا يزال مقيدا بشدة بسبب الإغلاقات. ويقول إن أولئك الذين يعملون في إسرائيل يضخون ما مجموعه مليون دولار فقط في اليوم في اقتصاد غزة.
وعمل حوالي 120 ألفا من سكان غزة داخل إسرائيل قبل استيلاء حماس على السلطة في 2007. وخسر جلهّم تصاريحهم عندما شددت إسرائيل الحصار في ذلك العام. وتضاعف عدد السكان إلى حوالي 2.3 مليون منذ ذلك الحين. وتقول إسرائيل إن الحصار ضروري لمنع حماس من بناء ترسانتها فيما تعتبره جماعات حقوق الإنسان شكلا من أشكال العقاب الجماعي.
وقال الطباع إن مضاعفة عدد التصاريح الحالية مرتين أو ثلاث مرات فقط هي التي ستؤدي إلى انتعاش اقتصادي في غزة.
وفي صباح أحد أيام الأحد، استيقظ إبراهيم قبل الفجر وقبّل بناته ولوح لأبنائه قبل أن يشق طريقه متجها إلى معبر إيريز نحو إسرائيل.
وبعد عبوره، يأخذه صاحب العمل بالسيارة أحيانا. وفي أحيان أخرى، كان يشارك عمالا آخرين في سيارة أجرة إلى مدينة بئر السبع الجنوبية الواقعة على بعد حوالي 40 كيلومترا. ويقضي كل مرة ثلاثة أسابيع في إسرائيل قبل أن يعود إلى منزله لمدة أسبوع.
وقال إبراهيم إنه لم يسبق له أن ذهب إلى إسرائيل قبل أن يحصل على تصريحه. وبدأ مؤخرا في تعلم العبرية. ويعمل في متجر في بئر السبع يملكه شخص من عائلته الموسّعة ويقول إن العديد من الحرفاء هم فلسطينيون من مواطني إسرائيل.
تصاريح
ومثل العديد من عمال غزة، قال إبراهيم إنه يتجنب أي نوع من المشاكل المحتملة حتى لا يتعرض تصريحه لخطر السحب. ويجتمع مع سكان غزة الآخرين من حين إلى آخر أو يذهب للصلاة في مسجد محلي.
وأضاف "أنا أعمل لساعات طويلة وأحصل على أجر إضافي، وهذا ما يدفعني إلى عدم العودة باكرا. كنا نعمل هذه الساعات في غزة مقابل 30 شيكلا فقط (حوالي 10 دولارات) في اليوم”.
ويكون تجديد بعض التصاريح تلقائيا، بينما يتعين على العمال الآخرين إعادة التقديم بشكل دوري على أمل ألا ترفضهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
وتنتهي صلوحية تصريح إبراهيم في ديسمبر. وقال إن احتمال عدم تجديده "مرعب” وإنه بدأ يجد صعوبة في النوم بالفعل. ويدخر قدر ما يستطيع من 75 دولارا تقريبا في اليوم. وذكر أن أمله الوحيد هو أن يطلق مشروعا تجاريا صغيرا في غزة إذا رُفض التجديد.
وقال إن والده لم يدخر المال عندما كان يعمل في إسرائيل منذ حوالي عقدين. وعندما أغلقت حدودها في 2007، خسر عشرات الآلاف من العمال، بمن فيهم والد إبراهيم، وظائفهم فجأة. وتوفي والده منذ ست سنوات. وقال "لا أريد أن يمر أطفالي بالتجربة التي مررنا بها”.