أخبار البلد - من بين أشياء كثيرة أخرى، فإن الانتفاضة الشعبية في جمهورية كازاخستان تقول لروسيا ما معناه "لا مفر" من مواجهة هذه الوقائع من الانتفاضات الشعبية المتتالية على الأنظمة السياسية الإقليمية المرتبطة بها، في مختلف الدول التي تعتبرها روسيا فضاءها الجيوسياسي المحيط، والتي تستميت في سبيل القبض والمحافظة عليها كمناطق نفوذ آمنة، من خلال حماية نوع من الأنظمة التي تتشابه وتستلهم "فلسفة الحكم" داخلها من النظام السياسي الروسي الحاكم نفسه.
فما أن تمكنت روسيا من مساندة النظام السوري المرتبط بها، عبر حرب عسكرية مباشرة داخل ذلك البلد، حتى اندلعت انتفاضة شعبية ضد الرئيس/النظام الأوكراني الموالي لها، ففر إليها الرئيس وزعيم حزب الأقاليم فيكتور يانكوفيتش، وصارت أوكرانيا دولة تتمتع بحريات سياسية وديمقراطية، لكن أولاً مضادة لروسيا.
احتلت روسيا بعض الأقاليم الشرقية من أوكرانيا، حتى تمنع خسارة كاملة طالتها هناك، فهزت انتفاضات شعبية السودان، ولم يكن من المصادفة إن تلك الانتفاضة حدثت بعد 10 ساعات فقط من عودة الرئيس السوداني المخلوع من زيارة إلى روسيا وسوريا. لم تتمكن روسيا من التقاط الأنفاس بعد تلك الأحداث، حتى انتفض مئات الآلاف في بيلاروسيا ضد الرئيس لوكاشينكو الموالي لروسيا، ومؤسس "القلعة الغربية للدفاع عن روسيا". استمرت أشياء من ذلك، حتى داخل روسيا نفسها، إلى أن اهتزت كازاخستان بهذه الأحداث الأخيرة، وحيث كان النظام الحاكم الموالي لروسيا الأكثر اعتدادا بـ"قبضته الحديدية".
في كل تفصيل من ذلك، يمكن رسم سياق سياسي متناغم، بين ما تواجهه روسيا راهنا من أنواع من الانتفاضات والثورات والهبات، داخلها وفي مختلف الدول المُسيطر عليها من قِبل أنظمة موالية لها، وبين ما واجهه الاتحاد السوفياتي طوال أكثر من سبعة عقود من عمره.
فالاتحاد السوفياتي الذي كان يظهر ككتلة حديدة صماء، إنما تأسس وواجه طوال تاريخه سلسلة من الانتفاضات المحلية، داخل حدوده وفي محيطه الجيوسياسي، كانت بجميعها اشكالا من التمرد والتعبير عن تطور تلك المجتمعات المحلية، ورفضها لذلك النمط من الحُكم السوفياتي الذي كان مفروضاً عليها.
فمع سنوات التأسيس عام 1917، قمع السوفيات التمرد الأوكراني بقيادة الإخوة تشوتشوباكي، اللذان كانا يقودان وعيا وطنيا يرفض الهيمنتين السوفياتية والألمانية في الآن عينه. بعد سنتين فحسب، اندلعت سلسلة الانتفاضات اللانكرانية في مختلف مناطق أذربيجان ضد السوفيات، التي لم تنطفئ إلا بعد إرسال قوة عسكرية ضخمة إلى مدينة باكو. بعد ذلك انتفض الجورجيون ضد الحكم السوفياتي، محاولين استعادة "جمهورية جورجيا الديمقراطية" التي محقها الجيش الأحمر في العام 1921.
طوال عقد الثلاثينات، واجه السوفيات التمردات السيبرية المتتالية، التي كانت مدينة كازيم مركزاً لها، فتلك الانتفاضات بمختلف الشعارات التي كانت ترفعها، أنما كانت تستهدف الخروج عن عباءة السلطة السوفياتية. في النصف الأول من الأربعينات واجه السوفيات ثورات الاستقلال في الشيشان وإنغوشيا، حيث لم يتمكن السوفيات من القضاء عليهم إلى عبر ترحيل مئات الآلاف من مدنيي تلك المناطق، وقتل أكثر من 140 ألف شخص.
طوال عقد كامل تلا ذلك، خاضت شعوب البلطيق تمردا مستعرا ضد ما أسمته الاحتلال السوفياتي. فالمقاتلون من "الأخوة فورست"، المنحدرون من إستونيا لاتفيا وليتوانيا، والذين كانت تقدر أعدادهم بقرابة 60 ألف مقاتل، خاضوا طوال الأعوام 1945-1956 تمردا عسكريا ضد الهيمنة السوفياتية، ولم يستسلموا إلا بعد عمليات محق طالتهم من قِبل الجيش السوفياتي. في نفس عام انتهاء تلك الثورة اندلعت مظاهرات تبليسي الشهيرة، التي تراوحت مطالبها بين تغيير الحكومة السوفياتي واستقلال جورجيا عن الاتحاد السوفياتي.
في العقد التالي، أعلنت أول حكومة موالية للاتحاد السوفياتي تمردها علناً. فالإصلاحات التي تبناها زعيم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ألكسندر دويتشيك الحاكم للبلاد، من الدعوة لحرية الصحافة وإعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز الديمقراطية، والتي اعتبرتها الأوساط العالمية بمثابة "ربيع براغ" في أوائل العام 1968، اعتبرها السوفيات تمردا قاسيا على نهجها السياسي، ومحقوا تلك الأحداث بغزو عسكري.
في العقد التالي، غزا الجيش السوفياتي أفغانستان، وكانت المصيدة التي قضمت صورة السوفيات عن أنفسهم، وكشفت هشاشة القدرات السوفياتية خارج الميدان العسكري. ففي عشرسنوات كاملة، لم يتمكن السوفيات من خلق مساحة توافق سياسي بين مختلف الجهات الأفغانية الفاعلة، الأمر الذي فكك الهيبة السوفياتية، وأدى بعد شهور قليلة من الانسحاب عام 1989 لأن يسقط جدار برلين، وتتداعى دول شرق أوروبا الموالية للاتحاد السوفياتي واحدة تلو الأخرى، ولأن يتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه خلال أقل من ثلاثة سنوات بعد ذلك.
ما يطابق روسيا اليوم بما كان عليه الاتحاد السوفياتي طوال عقوده السبعة ليس تكرر المشاهد والأحداث ذاتها، فهذه الأخيرة هي مُجرد نتائج ومفرزات منطقية لما يُمكن اعتباره ميكانزيم العلاقة التي كان الاتحاد السوفياتي قد أسسها بينه وبين مجتمعه الداخلي وباقي المجتمعات التي في البلدان المحيطة والموالية له، والتي تتبناها روسيا الراهنة تفصيلاً، وتصر على عدم وعي ما حدث في المرحلة السوفياتية.
فالسوفيات ومن بعدهم الروس، يعملون على الدوام بمنطق ورؤية الإمبراطوريات التقليدية القديمة، التي كانت تستخدم فائض قوتها العسكرية وسطوتها الرمزية للهيمنة المُطلقة على مجتمعاتها المحلية وما يحيط بها من دويلات وإمارات جانبية. حيث أن هذه المجتمعات والدويلات الطرفية لم تكن قادرة على الانعتاق من اشكال الهيمنة تلك، ما لم تتفكك تلك الإمبراطوريات من داخلها، بالذات في أعلى هرم السلطة. فالمجتمعات القديمة نادراً ما كانت تعرف أشكالاً للتمرد وطلب الحرية والانعتاق من الهيمنة الإمبراطورية.
لم يعد ذلك ممكنا راهنا بأي شكل. ففي مختلف أنحاء العالم، صارت المجتمعات أكثر حيوية وتبنيا وطلبا للحريات الفردية والعامة، ومعها غدت أكثر شعورا وعمقا بالهويات المحلية التي تُحدد طريقة السلوك الحياتي والخيار السياسي الأعلى. المجتمعات الحديثة، التي باتت أكثر تواصلاً والتصاقا وتفاعلا مع الكل العالمي، أصبحت تدرك تماما بأن السبب الجوهري لمآسي حياتها اليومية ونوعية الخدمات المهترئة المقدمة لها وشكل القمع العمومي الممارس عليها، أنما يتأتى من طبيعة الأنظمة السياسية التي تحكمها، داخل روسيا نفسها، وفي مختلف البلدان المطابقة لها.
مجموع تلك التفاصيل التي يُمكن تسميتها بـ"حتمية التاريخ"، والتي ترفض العقلية الحاكمة لروسيا أن تعترف بها، بالضبط كما رفض الآباء السوفيات القبول بها من قبل، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه، وربما لن يكون ما ينتظر روسيا مستقبلا أفضل من ذلك. فالقوى المحضة، أيا كانت درجتها، لن تستطيع أن تكبح، أو حتى توقف، ما يصير بداهة يوماً بعد آخر، إلا وهو شرط الحرية.