في أتون الذاكرة .. في بداية ثمانينيات القرن الماضي
كنا صغارا بعمر حواري ضيقة، تبدأ بطريق ترابي بانحدار سكة الحديد وتنتهي ومشارف سيل الزرقاء، المترامي الينابيع حتى أنك لتغرف بكفك من مائه فتختلط الحواس فتستطيع أن تشم رائحة زعتر بري نما على جنبات صخور منطقة الأزرق شرقي المدينة.
كان والدي يقول ولا يُقسم، أن ينابيع سيل الزرقاء كانت تحمل بقايا "تبن" مصدرها جِِمال الأزرق التي كانت ترد الينابيع هناك فتشرب وتترك "التبن" المتسرب من بين "شفتيها الغلاظ" ينساب والمياه الراحلة لسيل الزرقاء .. هكذا كان يقول أبي ..
وهكذا كان السيل يغازل الجدائل القوقازية الذهبية في بدايات القرن الماضي، عندما سكن أطراف سيلها مجموعات كبيرة من الشيشان، فابتوا بيوت الطين وموردهم السيل للماء والتزود بمزروعاته من البقوليات والخس والفول وحتى ان الارض على جنباته كانت تنسجم وعطاء السيل فتمدهم بالخبيزة وبحشائش وفيرة لخرافهم وبعض طيورهم الداجنة ..
على جنبات السيل، كانت الأمكنة تعرف طعم الحب .. يأتيها العشاق خلسة في "قصدورة" مسائية ومغيب آمن، لا يعكر صفاءه سوى صوت قطار الخط الحجازي، الذي كان صوت صفيره يتردد على مدى السيل، فيختلط بخرير المياه، ولتتحد الاصوات فيما بعد وصوت "موترات" الجيش التي كانت تتزود بالماء من ينابيعه والابار الجوفية المحاذية لأرض السيل ..
في سيل الزرقاء، ثمة شجرة توت، وبعد انقضاء ما يقرب من ثلاثين عاما، أخالها لا تزال قائمة ، كنا نحملُ قروشنا البرونزية، وندلف في محيطها، نُسلم قروشنا لصاحب الشجرة الذي يهز جذعها اليه فيتساقط التوت تلملمه أصابعنا الصغيرة، ونجلس على جنبات السيل نتناوله فتية وفتيانا ونرقب باهتمام وولع لم نحسه في حينها، مسير مجرى السيل دون ان نعرف الى اين تمضي مياهه حاملة معها انفاسنا الندية وذكريات العطلة المدرسية في أيام آب القائظة ..
زرقاء السيل والمعسكرات، كانت لعهدٍ ليس بعيد قرية الجند والعسكر الذين جمعتهم معسكرات المدينة من مدنهم القصية جنوبا وشمالا ، فتجد الكركي والمعاني والشوبكي والعجلوني والجرشي وحتى المفرقاوي، الذي هجر باديته والتحق بصفوف العسكر ..
في الزرقاء حكايا فلاحين وبدو وعسكر .. زرقاء البدوي "الحاج فرج" الذي جاء المدينة في طورها الأول جنديا في الجيش العربي من أرض حوران ..
زرقاء الفلاح أبو هند زميلتي بالابتدائية الذي هجر قريته في الشمال الاردني وجاء الزرقاء ليخدم ويعيش بمعسكراتها
زرقاء البدوية "فصايل" التي كنا نرافقها من "خربوش" أهلها بجانب سكة الحديد وندلف معها و"حمارها" الرمادي المحمل بقربتين كبيرتين لنملأ معها الماء من "موتورات" الجيش ونعود برفقتهما أيضا في "قصدورة" مسائية تمتد لأول الليل وأول الحلم وآخر الشقاوة حين كبرت المدينة وصارت لا تُشبه نفسها !!
في الزرقاء .. بكاء عذب، وحنينٌ نقي، وذكريات بيضااااااااااااااااء لا تعرف الخوف او التحسبات والتحزبات ، كان ايضا للمرحلة شعارها فلا شرقي او غربي او بدوي او فلاح .. حينها كان قاموس الوطنية أبيض، خالٍ من مصطلحات الفئوية والجهوية والمناطقية، خالٍ من مفهوم الديمقراطيات الدخيلة، فحينها كان المختار صاحب قول وفصل، والمتصرفية الادارية لا تعدو ان تكون وجاهة رسمية، كان الوعي السياسي لا يبتعد عن حب الوطن والملك أحيانا، ليس زهداً أو سذاجة، فقد كان الوطن معسكرا وسيلا وحارات ضيقة وسماء فسيحة ..
رائده الشلالفه