بقلم: صابرين فرعون
مع سطوع شمس الرواية، أخذ الاهتمام بفن القصة القصيرة يتداعى ويقل في الوطن العربي اليوم، رغم أنها –بشكلٍ عام- تعد من موروث الشعوب، فقد تناقلتها الأجيال من الجدات ورجالات الثورة تحديداً بطريقة شفوية لتأصل علاقة الإنسان بمعاني الحضارة والإنسانية وتحفظ عبق التاريخ، ورغم تطور تقنياتها وأساليبها وتعدد الأنواع القصصية "قصة قصيرة جداً، قصة قصيرة، سردية أو حكاية،خبر، رواية قصيرة أو نوفيلا، رواية طويلة" وعوامل نشأتها مما شهدته الثورة التكنولوجية ووسائل الاتصال وتطور نظام التعليم واختراع الآلة الطابعة والحاسوب وآلات التصوير وانتشار دور النشر والاحتكاك الثقافي الغني بالإرث الحضاري، كلها ساهمت في انتقالها وتطويرها و بروز أنواع جديدة كالومضة أو الأقصوصة "ق.ق.ج"في الوقت الحاضر.
سنجد ذلك الاهتمام القليل بالقصة، يُشع وينتشر من خلال أسماء لافتة، تشتغل على الفن الأدبي وتحميه من الانقراض والضياع..
عيسى جبالي وهو كاتب تونسي حاصل على الجائزة الأولى في القصة القصيرة عن مجموعته القصصية "كأن أمضي خلف جثتي" - الجائزة الإبداعية لمعرض تونس الدولي للكتاب في دورته الثانية والثلاثين 2016 م- يُخرج القصة القصيرة من تأخرها ونمطيتها المألوفة لعوالم الدهشة وأنسنة الموت والاشتغال على البؤرة التخيلية للفكرة ومحاورة الغائب واستحضاره بشكلٍ رمزيٍ يُفضي للسخرية من وحشية الإنسان التي تصل الشهوانية في إراقة الدم.
يُعبر عيسى جابلي عن إرهاصات فكرية ويسلط الضوء على العوامل النفسية التي تُسير شخوصه لعوالم القتل والتمرد على الفطرة البشرية، فيرتدي أجساد شخوصه أحياناً ويحكي بلسان الأنا ويقرأ أفكارهم ويرى بمنظور الآخر "الظلامي" ليوازن بين مكيالي الخير الذي جُبل منه الإنسان والشر كتوجه يتم تبنيه للسيطرة وإضعاف الخصم، ويصف أسباب تلبس فاوست لأرواح ضحاياه وتلك التصادمات الفكرية التي تغري على التنكيل والتعذيب والاستحواذ واستبطان الخير والتلذذ بالقتل والخراب، يُمسك الجابلي بزمام حبكته من خلال لغته المتأثرة بالأسلوب القرآني والتناص كما في قصة "أبقار عن غير قصد" والتقاطع مع الآية "وإنا له لحافظون"حيناً، والتجاور واللغة الشعرية والاستعانة بالرمز الميثولوجي كما "بروكوست، إيكاروس، فينوس" والإيحاءات الرمزية حيناً آخر..
تنوعت موضوعات المجموعة القصصية، فهي تخوض في التابوهات "السياسة والدين والجنس" بصورةٍ رمزيةٍ تدعو للتأويل وتعمل على تعددية مستوى النص، ليراه القارئ بمختلف أوجهه..
اثنا عشر نصاً تعتمد أساساً لغوياً ملغوماً، تتطلب تفكيك النص الممتد عكسياً من المُتخيل للواقع، فالجثث لا تتكلم وإنما يتم استنطاقها في شخصيات مُتخيلة لتحكي لسان حالها وتخبرنا قصتها وتسترجع كيف صارت جثةً تحررت من عوالق الهزيمة أمام وحشية الإنسان وبطشه في حروبه وصراعاته الكونية. يعتمد الكاتب التسلسل في السرد، فالقصة السابقة مستهل للاحقة، تُجانس الصور المشهدية وتُشكل حجراً متيناً في بناء النص وتحريكه وإعادة تركيبه..
تأثر الشاعر باللفظ القرآني واللغة الشعرية واضح في جزالة لفظه وعمق أثره على المتلقي خاصة في قصص مثل "بروكوست في المدينة"، "مدّاد يده"، "كأشباح الموت أو أدنى قليلاً!"، "متاريس العتمة"..
يمتلك عيسى جابلي نفس عميق في السرد وشجاعة كافية في الحديث في خبايا موضوعاته، فهو يحافظ على أسلوبه في شد وجذب القارئ، في كل الأزمنة ، يرمم تلك التصدعات التي أدت لانهيار البنيان المجتمعي بسبب إعلاء أيديولوجيات الطمع والجشع وضمور النزعة الإنسانية..