كانت تمسك بيد والدها تارة وببنطاله تارة أخرى وتخطو بثبات... تنظر بفرح
وبراءة فيمن حولها... تقدمت وراحت تسجل بمساعدة والدها موافقتها على بطاقة التوصية
لحملة "من بعدي حياة" للتبرع بالأعضاء ...
شئ عميق هزني... وأنا أتابع هذه الطفلة... كيف يكون هذا...؟ ما الذي يدفعها
لهذا الخيار؟
اسمها سلمى – سلمى شاهر العبادي – طفلة سمراء من بلدي، عمرها خمسة أعوام،
بجلال وقداسة تنساب جدائلها على كتفيها كنهر الأردن...
اختارت سلمى التبرع بعينيها ... استأذنت والدها بالحديث معها... فسالتها لماذا توافقين على التبرع بعينيك؟ نظرت في عيني وكأنها تستغرب السؤال في أمر بديهي وقالت: لا أريد أن تصبح عيناي ترابا... أحب أن يرى إنسان آخر بهما من بعدي... ثم تابعت: أريد أن أعطي عيوني لإنسان آخر حرمته الحياة من عينيه ... سيصبح سعيدا... سوف يرى الحياة .
ثم سألتها بماذا تحلمين حين ستكبرين؟ قالت: أريد أن أصبح طبيبه... طبيبة عيون...
صمتُّ... ونظرت في عينيها البنيتين... فيهما ذكاء وإصرار... رقة وحنان ...
عينان ضاحكتان... كشمس الصباح.
سلمى التي تتبرع بعينيها هي مجرد طفلة صغيرة وأمامها الحياة والعمر
الطويل والأحلام الكبيرة... كيف وصلت لهذه القناعة والخيار...؟
نظرت إلى والدها السيد شاهر العبادي... كان يمسك بيدها حينا ويضاحكها
حينا آخر... من هنا ولدت الفكرة... من عائلة تدرك معنى الحياة ومعنى أن تربي
أطفالها على الانتماء للإنسان... فليس سهلا الحديث عن التبرع بعيني طفلة لا تزال
تخطو على أول الطريق... طفلة لم تتجاوز الخمس سنوات بعد. ليس سهلا أبدا هذا الأمر لو
لم تكن هناك حاضنة رائعة لمعنى هذه الفكرة... هي التربية. ..هي القناعة بضرورة العطاء... هي الأسرة.
تخيلوا معي ذلك الشعور الغامر في قلب الطفلة سلمى وهي تروي استعدادها
للتبرع بعينيها... إنها منذ الآن وضعت
نفسها في سياق العطاء والتخلي عن الأنانية والغرور.. هذه الحركة البسيطة والعميقة
ستشكل قوة أخلاقية سترافق سلمى طيلة عمرها... العائلة تدرك ذلك وإلا ما كانت
لتوافق..
خطوة سلمى ووالدها ووالدتها بالموافقة على تبرعها بعينيها هي في العمق عملية
حماية وتربية وبناء سيكون لها تأثير نفسي وأخلاقي عميق في حياة وسلوك الطفلة سلمى
منذ الآن. هي إذن ليست حركة مؤجلة التأثير بل هي صيرورة ستنمو وتتفاعل مع سلمى
ومحيطها ووعيها منذ الآن.
هذه هي سلمى ... الطفلة السمراء من بلدي... ذات الخمسة أعوام... لا زالت
سلمى طفلة صغيرة... لكنها منذ الآن تملك قلبا كبيرا... قلبا بحجم الوطن.. وبحجم
الإنسان...
فهنيئا لوالدي سلمى على روعة
وعيهما الذي يتخطى الكلام نحو الفعل والمبادرة... وهنيئا لنا وللأردن بسلمى ذات
الخمسة أعوام... التي تعرف وتمضي نحو هدف لم يدركه بعد الكثير من البالغين.