بقلم : صابرين فرعون
تُعنى السيرة الذاتية الأدبية بتجربة الأديب نفسه ، حيث يُورد فيها أحداث مهمة خلال مراحل معينة من حياته ، بحيث يؤرخ للأحداث ويستكشف شخصيته بمنظور ذاتي بحت ، يسجل فيه أحاسيسه الدفينة وأيدلوجيته التي تقاس بها مواقفه بالايجابية أو السلبية إزاء قضايا عامة ..
أهم مراحل التسجيل والتدوين وحتى التراجم الأدبية هي السجون والمعتقلات ، لغنى هذه الأماكن المقفلة بالتفاصيل الحياتية للأسرى والحقائق المُغيبة خلف غرف التحقيق والمسكوت عنها في ظل ميزان القوى التي يخضعون لها ، ويفرضها السجان ضارباً بها قوانين حقوق الإنسان عرض الحائط ، مُتقصداً التنكيل وإخضاع الأسرى للتعذيب النفسي والجسدي وانتزاع الحياة منهم وهم أحياء ، ولكن "لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه" ، فروح التمرد وطلب الحرية تخوض كل أساليب التنديد بالتعذيب مثل انتداب بعض المساجين للحديث باسمهم ومطالبهم كخطوة أولى ، والاضراب المفتوح عن الطعام وفي بعض الحالات التي لا قُدرة لها على الاحتمال يلجأ السجين لإنهاء حياته بموس الحلاقة ..
تتزامن رواية "سراب بري" للأديب عبدالرحمن مطر مع طبيعة وظرفية الأحداث السورية على الواقع ، لتؤكد انتهاك حرية الرأي والكتابة للمثقف العربي سواء كان صحفياً أو أديباً ، والتضييق بكل الوسائل المتاحة والغير شرعية عليه بوصفه "متسلح" بالكتابة والقراءة في أي موضوع أو قضية من شأنها خلخلة هرم الفساد الوظيفي على سبيل المثال أو تنوير العقول الصدئة والممتلئة بالدنيوية وترهات التملك المادي وسلب الحقوق الفكرية للفرد في مجتمع سعت أجيال لصنع حضارته ويتم برمجة ذلك الفرد على الهدم والخرق والخضوع لثقافة الجهل والتسيير كالآلة بلا عقل ، كذلك تؤكد الرواية على أن الاعتقال السياسي ضرب من التلفيق في كثير من القضايا ، وأن الاعتقال في هذه الحالة تكتيك هجومي للتخلص ممن يكشف التزييف أو يخطو بخطوة خارج نمط السرب والتحليق المنفرد في تلمس الوقائع وجمعها وكشفها للعالم.
يخضع بطل الرواية الصحفي "عامر" للرقابة الأمنية ويتعرض للمضايقات والملاحقة ويتم اعتقاله عدة مرات في سوريا وليبيا ، ولكن أطول هذه الاعتقالات في ليبيا بحكم "مؤبد" إثر تحقيقاته الصحفية في التعذيب في سجن أبو سليم ، وأحداث سبتمبر ودور الزعامات العربية فيها ، وبعد صدور حكم المؤبد زوراً وبهتاناً وتعرضه للتعذيب وإرغامه على التوقيع على أقوال غير أقواله والتلاعب بالتحقيق وتحضير الحُكم قبل بدء جلسات المحكمة ثم دخول السجن حيث يوجد أقسام مختلفة من المساجين ، أربعة من السجناء هم أسرى على خلفية سياسية والباقي تختلط حكاياتهم ووجعهم وجرائمهم من تهريب المخدرات والسرقات واختلاس وغسيل الأموال وغيرها من التهم . يسود أجواء السجن الجهل والفراغ والمخدرات والتدخين وذلك يؤجج روح التمرد لديه خاصة أنه في حالة صحية سيئة فهو يعاني من الربو ويحتاج إلى "الفنتالين" الذي يساعده على الصمود لساعتين وتحمل أجواء السجن من رطوبة وعفونة الزنزانة ، وهو المثقف الذي يقع على عاتقه تعريف المساجين بحقوقهم والمثابرة على القراءة والكتابة وتهريب القصائد والمقالات التي كان يكتبها باسم مستعار فترة السجن لإثارة الرأي العام وحقوق الإنسان وبرغم الوعود الكاذبة بالحرية إلا أن هذه المنظمات لم تُحسن من وضع المساجين وظروف عيشهم ، حتى انقلبت أمور البلاد في بنغازي ، وقام المساجين بالسيطرة على السجن ورمي إدارة السجن خارج البوابات فتدخلت القوة العسكرية بالمدافع وعاقبتْ إدارة السجن لعدم قدرتها على الإمساك بزمام الأمور ، تصاعدت الأحداث والمظاهرات حتى قامت إدارة السجن بعقد صفقة مع المساجين للخروج للشارع وتأييد الزعيم ، كما ذاعت تسميته ، في الساحة الخضراء ، وكانت هذه فرصته للهرب وسط الحشد وعودته لزوجته وأطفاله ومحاولة الهرب من تلك البلاد ولكن محاولته باءت بالفشل وانتهت الرواية بتراجيديا جديدة في العبارة الحوارية "أنت موقوف" ..
خرائطنا الذهنية مرتبطة بما نقوم به يومياً كالدراسة والعمل وحتى التفاصيل الصغيرة كالتفنن في إعداد الحلويات أو كتابة خاطرة أو حتى سياقة المركبات ، سلوكياتنا هي نتاج اللاوعي .. في السجن ، يتسبب التعذيب في تشكيل جديد لعوالم الحياة والموت وما بينهما لدى السجين ، مما يهيئه للحديث مع نفسه "مونولوج" بسبب الأخيلة أو الصور الذهنية التي يكاد يؤكد رؤيتها وسماعها كالأشباح والجن وأرواح الموتى في الزنزانة وذلك لاضطراب الحواس والرعب الشديدين نتيجة الحرب النفسية التي خضع لها في مقاومة جسده للاعتداء الجسدي كالربط الرباعي "اليدين والرجلين" والتدلي والتعرية تحت وطأة القيظ أو البرد حسب الموسم والطقس والانفرادي ، واستجابته لأمر السجان تُعد وعياً بالنتائج المُترتبة ، كما حدث مع أحد المساجين "النمس" ، وكذلك الأحلام هي نوافذ على الماضي وأبواب مفتوحة على مصارعها للمستقبل ومهرب من الحاضر ، فها هو عامر يتعلق بالأنيما المؤنثة لاستذكار ماضٍ التقى فيه بامرأة حفظت قصائده ومنحته نشوة الفرح الآنية ، تخرج من قالب الوقت لتنزع عنه مخاوف السجن مما يؤكد أن عوالم الوعي في هذه الحالة تختلط مع اللاوعي في تشكيل آخر لردة الفعل ..
يدخل التخييل في هذا العمل الجامع بين الأدب والتوثيق للسجن والسيرة من خلال أسماء شخصيات شاركت في تصعيد الحدث في كل فصل من الرواية ، اسم الزوجة "شام" وكذلك أسماء المساجين "الوردي ، رزوق النمس ، أبو حيان ، سعيد الفرة..." كلها تتفق إما بالوصف الجسماني الذي رسمه لهم أو مقصودة بإحالتها ..
المشهد الوصفي بتفاصيله بالإضافة للحوار والمونولوج وتقنية الاسترجاع الفني تمنح اللغة عمقاً حسياً بمعاناة السجناء ، وتؤثر واقعاً في صياغة شخصية السجين مما يمنح هذه السيرة الذاتية المصداقية .
عبدالرحمن مطر أديب سوري ، يحمل الإجازة في علم الاجتماع ، وهو كاتب وصحفي مستقل مقيم في كندا ، مدير مركز الدراسات المتوسطية "نورس" ، ينشر مقالاته في الصحف والمجلات العربية ،عمل في حقل الثقافة والإعلام والمنظمات الغير حكومية في سوريا وليبيا وتركيا ، صدر له : مجموعة قصصية "الدم ليس أحمر" ، نصوص شعرية "أوراق المطر" ، "وردة المساء" ، دراسة "دراسات متوسطية" ، رواية "سراب بري" ...