سويعات مع العشرات من مسيحيي العراق الفارين من "نكبة الموصل" على يد تنظيم "داعش" الإرهابي، والمسنود من قطاعات شعبية واسعة تشرّبت الفكر التكفيري، تكفي لرسم سيناريو فيلم رعب عن حاضر ومستقبل أمة تنزلق إلى أسفل درك الإنسانية، كما تكشف الخواء الفكري والانحطاط الأخلاقي.
عنوان الفيلم المقترح: "مجتمع داعش العميق بيننا"؛ والذي يسرد هذه الثقافة المتوارية التي تتسلل داخل منظومتنا القيمية والأخلاقية المفترض أنها الوعاء الجامع للهوية وطنية.
سلوك إقصائي بات يشكّل حيزا داخل المجتمع، عماده حزمة تحالفات تتناقض مع العقل والمنطق والفكر الحر وقيم الإنسانية. جماعات تمتهن كرامة الفرد، ولا تحترم التعددية والتنوع والاختلاف، وتحلّل قتل أو إلحاق الأذى بكل من لا يحمل معتقداتها، حتى لو كانوا من أبناء جلدتها في وطن مشترك.
ينطبق على هذه القوى مصطلح ما يسمىّ بـ"الدولة العميقة" المناهضة للديمقراطية (عناصر رفيعة داخل أجهزة الدولة المختلفة، مدعومة بتحالفات بين البيروقراطية ورأس المال وكتائب إعلامية متنفذة). قوى تتربص لإجهاض أي تحليق صوب الديمقراطية في غالبية الدول التي ضربتها رياح التغيير العام 2011؛ نظام داخل نظام، قادر على إدارة البلاد بغض النظر عن الحزب أو الرئيس، وقادر على إحباط سياساته أو إضعاف تأثيرها.
التطهير الممنهج الذي يمارسه تنظيم "داعش" منذ شهرين في حاضرة الموصل العراقية، بمشاركة سكان في المدينة، ضد مواطنين مسيحيين وأزيديين وتركمان شيعة وشبك، شاهد آخر على تغلغل ثقافة التكفير والعنف والردة في ظلال عقود من الاستبداد السلطوي وتغييب المنطق بنظام تعليم كارثي، يستهدف تجهيل الشعب وإقحام الدين في السياسة، في غياب أي مراجعات تتناول الفقه والاجتهاد.
تتشكّل في إطار هذه التراكمات ثقافة "داعش" التي لا نرى منها إلا رأس الجليد، بعد رياح التغيير التي تعصف بالمنطقة؛ كاشفة تناقضات مرعبة، وعنفا كامنا، ومنظومة فكرية متحجرة داخل غالبية المجتمعات، حتى تلك التي كانت مثالا ناصعا على التعددية والتجانس والنهضة الإنسانية.
أكثر ما يحز في نفوس عراقيين مسيحيين ممن وصلوا إلى عمان أخيرا -ضمن مكرمة ملكية ريادية على مستوى المنطقة سمحت بدخول 1000 إنسان فارين بحياتهم- شعور صادم بأن من خذلهم ونهبهم وهجّرهم هم بعض مواطنيهم الذين عاشوا معهم قرونا بأمن وسكينة، قبل أن يتحول هذا البعض بسرعة البرق إلى "داعشيين" روحا وقلبا وقالبا. فغدروا بهم، وسبوا نساءهم، وسطوا على ممتلكاتهم محطمين أحلامهم بالحياة.
انقلب الأخ على أخيه!
فبعد أقل من أسبوع على دخول "داعش" الموصل يوم 10 حزيران (يونيو) الماضي، أوقف وكلاء الحصة التموينية تزويد المواطنين المسيحيين بحصتهم، بحسب روايات بعض من التقتهم كاتبة المقال في مكان إقامتهم المؤقت في دير كنيسة اللاتين في ماركا. ثم توقف بعض أصحاب مولدات الطاقة الكهربائية الأهلية عن تزويد المسيحيين بحصتهم من الطاقة، بحسب ما يسردون. وطلب منهم الالتزام بالزي الإسلامي "احتراما لمشاعر المسلمين"، قبل أن يذيع تنظيم "داعش"، عبر مكبرات الصوت فجر الجمعة 18 تموز (يوليو) الماضي، أن على المسيحيين الاختيار بين دخول الإسلام أو دفع الجزية أو حد السيف أو الرحيل قبل ظهيرة اليوم التالي.
في الأثناء، شارك مواطنون ممن باتوا يعتقدون أن المسيحيين "كفرة"، في أكبر حملة لتصفية أملاك جيرانهم في المنطقة، من باب أنها "حلال". بعضهم شارك "داعش" في ترميز بيوتهم بحرف "ن"-نصارى. آخرون حرقوا كنائسهم وحطموا رموزهم الدينية. في المقابل، تسمع من الهاربين قصصا عن جيران مسلمين ساعدوهم على الفرار، ووعدوهم بحماية ممتلكاتهم لحين عودتهم. ولكن لا يتوقف أحد عند هذه الفروسية الوطنية المفترض أن تكون القاعدة بين أبناء الوطن وليس الاستثناء.
قصص إذلال وقسوة، ممزوجة بقهر وخوف وخيبة أمل على وقع محاولة سريعة لشطب تراث ديني وإرث حضاري ومكون أساس من طيف المجتمع يعود للقرن الثالث الميلادي. والأسوأ، تبلور ملامح سوداوية لشرق أوسط جديد قائم على ثقافة التجهيل والتقسيم أو التطهير العرقي والمذهبي. فمفهوم المواطنة الجامع يتراجع أمام صعود تصنيفات فرعية: مسلم شيعي، ومسلم سني، ومسلم درزي، وبهائي، ومسيحي، وأزيدي، وصابئي، وكافر، ومرتد أو خارج عن الدين.
تلك الردّة تحقق نبوءة ابن خلدون في مقدمة كتابه الذي رفعه إلى مصاف فلاسفة الدنيا: "إذا أردت أن تحكم في جاهل قدّم له الباطل بثوب ديني".
مسيحيو الموصل يصلون إلى عمان بكرامتهم وملابسهم. خسروا كل شيء، بما في ذلك أمل العودة إلى مسقط رأسهم الذي أنجب أجيالا من العلماء والمفكرين، خصوصا في العصر الإسلامي. ظلوّا جزءا من الهوية العربية الجامعة، قبل أن يصبح هاجسهم الهجرة. وبذلك، يخسر العالم العربي المزيد من الأقليات العرقية ومكونات طائفية ظلّت دوما جزءا من موزاييك ثري، في منطقة تخطو مسرعة نحو لون ومقاس واحد للجميع.
منذ 900 عام والأمّة العربية تتخلف عن ركب الحضارة، بعد أن غزت العالم بتنويرها.
يتناسل الفكر التكفيري داخل الدول العربية؛ الفقيرة بالموارد الطبيعية، والغنية بالنفط والغاز على حد سواء. لذلك أسباب سياسية وتعليمية ومجتمعية، مدعومة بإشكالية الهوية ومتلازمة الثقافة وضبابية فصل الدين عن السياسة.
تنتصر أيديولوجيا "داعش" وأخواتها هذه الأيام ليس لقوتها، بل بسبب فشل العرب في تحقيق النهضة الإنسانية.
الحل لا يكمن في المعالجة الأمنية؛ فهذا خيار مرحلي غير قابل للاستدامة. التداعيات في تونس، ومصر، وليبيا، وسورية، واليمن خلال السنوات الثلاث الماضية، مثال حي على أن الضغط يولد الانفجار والتطرف. مفتاح الحل يتطلب وقتا وتدرجا لضمان حق الفئات الدينية والفكرية كافة في ممارسة العمل السياسي. وهذا يستدعي إصلاحات سياسية واسعة، بدلا من الردة على ما تحقق حتى الآن من خطوات تجميلية. ولا بد أيضا من احترام حق التعبير عن الرأي وحق التنوع ضمن بوتقة الوطن.
هذه المعادلة تتطلب حلولا ناجعة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي تشجع حواضن التطرف. وتتطلب أيضا استعادة هيبة الدولة ووقف مظاهر الخروج عن القانون لأشخاص دون غيرهم. كما يجب إحداث ثورة تعليمية في المدارس والجامعات ودور العبادة كافة، وتبني نظام تعليمي مختلف يعكس احتياجات مواطن القرن الواحد والعشرين، ويؤمن بقيم التعددية والعيش المشترك والتنوع الديني والحضاري والثقافي وحقوق المرأة والطفل.
العالم العربي يواجه انتكاسة في الحريات السياسية، وتشويها في التعليم والثقافة، وتهميشا للمرأة- نصف المجتمع. أضف إلى ذلك فجوة المعرفة الرقمية. جميع تلك العوامل تحفز التطرف والإرهاب والتكفير التي باتت أكبر خطر يهددنا. كما تؤجج النزاعات والهوس الديني، وتمزق الهوية الثقافية الوطنية في غالبية أقطارنا، وتوقظ أطرا بدائية للانتماء: القبيلة والعائلة والمذهب.
تحتاج هذه المنطقة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق إصلاح بثلاثة أركان: سياسي-حوكمي، واقتصادي، وثقافي-تعليمي يصلح ما أفسدته عصور الاستبداد، ويفكك التكلسات الفكرية المحفزة لفكر "القاعدة" وأيديولوجيا "داعش" وأخواتهما.
العالم العربي اليوم أمام مفترق طرق: التقوقع في أجواء العصور الوسطى، أو الانتقال الى مستقبل أفضل بخطى ثابتة، من خلال رفع راية التعددية.