احتاج العقل السياسي العربي الى مظاهرتين واعتصامين كي يُنتج مصطلحات يحتاج الواقع السياسي والاجتماعي الى عقود للتخلص من ظلالها وتبعاتها , وكلها منتجات لفظية لا تمتلك اي صفة علمية او اية دلالة سياسية سوى ان يتنطع عضو في حزب , او ما نطلق عليهم جُزافا اسم سياسي ويقوم بإطلاق لفظة او صفة لتصبح قاعدة علمية يمكن الاستناد اليها لدحض الاراء او شطبها .
بوحي من اعلام الربيع العربي وفضائياته التي انتشرت مثل اقفاص الخضار على الطرقات , ظهر مصطلح البلطجة الاعلامية , وهو وصف ملاصق لكل من يخالف رؤية احزاب المعارضة او تعاطيها مع موقف سياسي او رؤيتها لطريق الاصلاح وتميزت الاحزاب ذات المرجعية الدينية بإطلاق الاوصاف وخاصة اعضاء جماعة الاخوان المسلمين او اعضاء احزابهم المُستنسخة .
وليس بالضرورة ان يبقى الوصف ثابتا فيمكن لبلطجي ان يتحول الى مناضل او حراكي حسب رغبة الحزب والعكس صحيح , فبعد الانقسام العامودي في تنسيقية احزاب المعارضة تراشقت الاحزاب نفسها التهم وتنابزت بالالقاب , فتحول المشارك في مسيرة تطالب بالاصلاح الى بلطجي لكونه دعم الدولة السورية , وتحول شيطان الامس وبلطجي زمن مرسي الى مناضل لادانته الانقلاب العسكري في مصر او لرفضه التورط في الموافقة على خارطة الطريق وتكفي مشاهدة مسيرة الجبهة الشعبية امس احتفالا بانتصار المقاومة في غزة لرؤية العجب العجاب , فلافتة حملها اعضاء الجبهة تشكر القنوات السورية وقناة الميادين والجزيرة والقدس كادت ان تعصف بمشاركة تيارات سياسية لمجرد وجود اسم قناة الميادين والقنوات السورية , وبالمقابل هدد سياسيون بالانسحاب لوجود اسم قناة الجزيرة , والطريف ان التهم بين الفرقاء حملت وصفا واحدا « بلطجة اعلامية «.
البلطجة الاعلامية انتجت مصطلحات موازية اقل حدة من البلطجة ولكنها تحمل نفس المضمون مثل التجييش الاعلامي والتحشيد والكتائب المحمولة وما تيسر من اوصاف تقع جميعها تحت لافتة « كتاب الدولة « , فالحياد ممنوع على الكاتب والانتقاد حرام اذا كان موجها الى حزب ديني او كتلة حراكية او نقابة مهنية , فمواقف تلك المكونات كلها صحيحة ولا يأتيها الباطل من اي اتجاه , ولعل ما وقع ضد الزميل حسين الرواشدة وهو كاتب مصنف على الاتجاه الاسلامي السياسي بعد انتقاده لاضراب المعلمين وما حدث مع الزميل فهد الخيطان من عضو مسؤول في جماعة دينية كافٍ للتدليل على سيولة المواقف وتناقضها .
الصحفي او كاتب المقال ليس حزبا ايديولوجيا وليس ملاكا ايضا , فهو يتعرّض لمواقف متنوعة في مقاله فيؤيد هذا الموقف ويرفض موقفا آخر لنفس الجهة , فهو ليس عضوا في حزب ولا ينتمي الى مدرسة سياسية , بل ان الجمود في الموقف يعتبر مثلبة للكاتب ويدخله في خانة العدمية فالاحزاب المعارضة ليست دائما على صواب والحكومة بالضرورة كثيرة الاخطاء , فأين المفر ؟
بالعادة تلجأ التيارات السياسية المعارضة والحكومات الى الالتفاف على النقد والى اخفاء الموقف الحزبي الايديولوجي لصعوبة الاقناع بصدق توجهاته او لخشية من حمله اجندة الحزب المرفوضة او المخالفة للمزاج العام ,فبناء فكرة او الاقناع بأيديولوجيا أوحتى تفنيدها يأخذ وقتا وجهدا ،الأمر الأسهل دائماً هو التركيزعلى الأشخاص عبر مهاجمة ذواتهم ومصداقيتهم وطباعهم وذكائهم أو حتى مظاهرهم وأشكالهم،هذا النمط من القصف المتواصل لن يترك أي فرصة من أجل مناقشة الأفكار أو البرامج أو الإنجازات او مناقشة الحدث ذاته , فتلتهي الناس بالاوصاف والصفات وتضيع الحقيقة .
البلطجة الاعلامية لا يمكن ان ينتجها صحفي او كاتب لا يملك الا الرأي والقلم , ولكنها منتج سياسي بامتياز لارهاب المخالفين والطعن بأرائهم وصدقيتهم لمجرد مخالفة رأي جماعة او حكومة ,فيعمد الساسة إلى تشويه خصومهم ومعارضيهم بدل الاتجاه للدعاية لأنفسهم ولأفكارهم وبرامجهم .