اليوم، بعد أن تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في المجزرة الجديدة عدد من سقطوا في المجزرة السابقة، يقف قطاع غزة مجددا، وحيدا إلى درجة كبيرة، في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية. هذا، مع التأكيد على أنه من السذاجة – بل والتجني - اعتبار العدوان رد على إطلاق صواريخ حماس والمقاومة. ومن التجني على الحقيقة أيضا حالة ثنائية التهويل والتهوين التي تكرسها وجهات النظر المتعارضة في النظرة للأحداث.
عن المستفيد من كل ما يجري، وفي البداية المبكرة للأحداث، تنبأ الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (ﻳﻮﻧﺎﺗﺎن ﻟﻴﺮﻧﺮ) بالتعقيدات المستجدة: «اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻟﺴﻴﻨﺎرﻳﻮهات اﻟﺘﻄﻮرات المحتملة ﻻﺳﺘﻤﺮار ﻋﻤﻠﻴﺔ «الجرف اﻟﺼﺎﻣﺪ»، ﻫﻲ أن اﻟﻘﺘﺎل اﻧﻄﻠﻖ في ﻇﻞ وﺿﻊ تعاني فيه ﺣﻤﺎس ﻣﻦ ﺗﺮاﺟﻊ ﻗﻮﺗﻬﺎ داﺧﻞ القطاع، وأﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﺨﺴﺮه. وﻳﺨﺘﻠﻒ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ ﻋﻦ اﻷوﺿﺎع اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻤﻠﻴﺎت الجيش اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ في ﻏﺰة ﺿﺪ ﺣﻤﺎس واﻧﺘﻬﺖ ﺑﺎﺗﻔﺎﻗﺎت وﺗﻔﺎﻫﻤﺎت وﻗﻒ اﻟﻨﺎر». من جهته، وعلى نحو مبكر أيضا، كتب (ﻫﺮﺋﻴﻞ ﺣﻮرﻳﻒ) – الدكتور والباحث في ﻣﺮﻛﺰ «ﻣﻮﺷﻴﻪ داﻳﺎن ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﻟﺸﺮق أوﺳﻄﻴﺔ واﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ»: «ﺗﺴﻌﻰ ﺣﻤﺎس إلى إﺣﺪاث ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻣﻠﻤﻮس في وﺿﻌﻬﺎ الجيوسياسي، واﻻﻗﺘﺼﺎدي، واﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ اﻟﺪاﺧﻠﻲ اﻟﺼﻌﺐ. وﻣﻦ ﻫﻨﺎ، ﻳﺒﺪو أن اﻟﻌﺮض اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ – «اﻟﺘﻬﺪﺋﺔ في ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﺘﻬﺪﺋﺔ» - ﻳﻌﻜﺲ ﺳﻮء فهم إﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ ﻟﻐﺎﻳﺎت ﺣﻤﺎس، وﻟﻠﺘﻐﻴﻴﺮ الجاري في ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻠﻌﺒﺔ. إذ إن الحركة ﻻ ﺗﺒﺘﻐﻲ اﻟﺘﻬﺪﺋﺔ راهنا، ﻷﻧﻬﺎ، وفي ﻏﻴﺎب أي ﺧﻴﺎر آﺧﺮ، ﺗﻨﻈﺮ إلى اﻟﺘﺼﻌﻴﺪ اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ الحالي ﻋﻠﻰ أﻧﻪ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻜﺴﺮ ﻋﺰﻟﺘﻬﺎ اﻟﺪﺑﻠﻮﻣﺎﺳﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ». ويختم الكاتب الإسرائيلي بما هو أخطر من ذلك بالقول: «تعلم حماس أن «الجرف اﻟﺼﺎﻣﺪ» ﻟﻴﺲ بمقدوره أن يهدد ﺳﻴﻄﺮتها ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻄﺎع، باعتبار أن الإسرائيليين يخشون إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻌﺮﺿﻬﻢ لخسائر ﺑﺸﺮﻳﺔ في اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ اﻟﺒﺮﻳﺔ، وأن إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﺗﻔﺘﻘﺮ إلى ﺑﺪﻳﻞ ﻣﻔﻀّﻞ ﻋﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﺣﻤﺎس ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إلى اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﺗﻤﺜﻠﻪ المجموعات الإسلامية المسلحة الأخرى اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﻂ في القطاع».
هذا عن جوانب (غير مباشرة) من سوء التقدير الإسرائيلي لطبيعة مواجهتهم مع المقاومة في غزة. أما عن الارتباكات الإسرائيلية (المباشرة) ومضامينها، فيستخلص الكاتب الإسرائيلي (أليكس فيشمان) نقطتين مهمتين يمكن البناء عليهما، ألا وهما: «يكمن جذر الشر في حقيقة أن دولة إسرائيل ليست لها أية سياسة واضحة في مسألة غزة، وليس واضحا لها ما الذي تريد أن تفعله بالضبط مع سلطة حماس في القطاع. كما أن دولة إسرائيل لا تعامل القطاع على أنها دولة بل على أنها مجموعة من الناس تدبر أمورهم حركة ارهابية». كذلك، كتب (آري شبيط) يقول: «إسرائيل لم تفعل في السنوات الأخيرة لمواجهة احتمال اشتعال مواجهة مرة أخرى في الجنوب ما كان يفترض أن تفعله. وإسرائيل بنيامين نتنياهو تضطر إلى التسليم بضرب مستمر بالصواريخ لعسقلان وأسدود وتل ابيب. وهي لا تعرف كيف تهزم حماس في غزة دون أن تغرق في وحل غزة».
وفي خاتمة أولية، يتضح أن بنية قطاع غزة الديموغرافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي – في معظم الأوقات – بمثابة بركان جاهز للثوران، ناهيك عن أن أهل القطاع متجذرون في أرضهم بقوة الانتماء وقوة ديكتاتورية الجغرافيا، وأن حماس وقوى المقاومة الأخرى تستعصي على الاقتلاع السهل وهو الأمر الذي لا تريد ولا تستطيع إسرائيل دفع ثمنه خوفا من مجموعة عواقب تمت الإشارة إليها أعلاه من قبل إسرائيليين بارزين. وعليه، نقول – مع غيرنا – أن المقاومة حققت هذه المرة عدة مكاسب لا يمكن تجاهلها». وفي ظل الظلم الذي لا تبدو له من نهاية في موضوع حصار «القطاع»، والثمن الغالي جدا الذي تم دفعه من دماء البشر والشجر والحجر الفلسطيني، نلحظ أن المقاومة، وطلباتها كذلك، قد تطورت بدرجة لفتت أنظار عديد الكتاب الإسرائيليين والغربيين والعرب، وبات من حقها (وحق منظمة التحرير الموحدة) تحويل التضحيات الكبيرة التي قدمت، مقرونة بما تحقق من نجاحات على الأرض، إلى مكاسب وانتصارات سياسية. فلقد نجحت حماس والمقاومة – حتى الآن - في المحافظة ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺎر ﻣﻨﺘﻈﻢ ﻟﻠﻘﻴﺎدة واﻟﺘﺤﻜﻢ ﺮﻏﻢ همجية وبشاعة العدوان، وﺣﺎﻓﻈﺖ ﺑﺼﻮرة ﺧﺎﺻﺔ ﻋﻠﻰ وتيرة إﻃﻼق اﻟﺼﻮارﻳﺦ في أعماق الكيان الصهيوني، جارفة خمسة ملايين إسرائيلي إلى الملاجئ، علاوة على خسائر إسرائيلية بشرية وسياسية واقتصادية وإعلامية، بل وأخرى تتعلق بجوهر الهدف الصهيوني المركزي، وعن هذا كله سنكتب لاحقا.