بقلم : صابرين فرعون
يتجه العالم اليوم للقتل باسم "الطائفية" ، وهي تختلف بمفهومها عن الدين نفسه ، الدين الذي شُرع لتنظيم أمور البشرية تناولته أصوات دخيلة بالبدع والتأويل والاستهلاك النفعي الذي لا يخدم الرسالة الوطنية أو الثقافية أو حتى الجوانب المجتمعية بأبعادها المختلفة من اقتصاد وحدود سياسية والتي تُعد من مقومات إقامة دولة ...
تأتي رسالة الروائي حازم كمال الدين في روايته "مياه متصحرة" لتؤكد ارتباط الحاضر بالماضي المنبثق عنه وانفتاحه على المستقبل ، من خلال السمات اللغوية للخير والشر التي لا تقتصر زمانياً ومكانياً على جنس بعينه ، برغم أن صيغة السرد كانت عن العراقيين في العراق ، فقد صُيرت الأرض لعبة للطائفيين يرمون البشر في مستنقعات وخنادق الحرب وينزعون منهم آدميتهم وأبسط الحقوق في الدفاع لا الهجوم وذلك تحقيقاً لسياسة التطويع والتسخير !
هذه الرواية البوليفونية الشكل بتنوع أصوات السُراد فيها " الحفيد والجد اللذين من نفس الجيل ودمجها مع شخص الروائي نفسه وصوت السجين المُغيب " وما تحتويه من عناصر المونولوج الداخلي والحوار وتوثيق علاقتها كرونوتوبياً "زمانياً ومكانياً" وتوظيف القطع السينمائي واختزال المشاهد ومزجها بالفانتازيا والأساطير كما "أوروك" في ملحمة جلجامش والخيال العلمي من خلال الأيقونات الحلزونية للنفق ، وارتباط اللغة بعلاقة تفاعلية مع التناص والتأثير والتلميحات والاقتباسات القرآنية ، والتباين في كتابة كل فصل من فصول النفق الحلزوني لسرد النسق الفكري والعاطفي للسجين حازم كمال الدين الحفيد ، وتوازي النص الإبداعي باختزالات مشهدية ، مثل :
التباين والاختلاف في دفنه في مقبرة النجف أو الأعظمية وزواج جده من الطفلة الملعونة التي تنزع من رجالها الروح وتغرس بهم سمها ليتحولوا لعقارب مسخرة للطاعة العمياء للسحرة وشجاعة وحنكة الجد وتضحيته بالزواج من الطفلة بدلاً من ابنه عالم الآثار والد حازم ، وكذلك في مشهد المعركة التي دارت بين العقرب وحازم في السجن ، بالإضافة للغة الخطابية التي تسبر أغوار العمل الأدبي وتلتف حوله تاريخياً لتؤكد مدلولاته الواقعية ، مثل : حصان طروادة ، خاتم سليمان ، حوت يونس ، بيت العنكبوت ، ذو الكفل ، السفّاح ، انقلاب شباط الدموي ، الكوّالون ، السومريون ، الكاهن كالا ماخ ، التشابه بين بابل وأوروك ، الطبيب بيم فان لومل ونفق الموت ، أخيل ، شمشون ، فلانجيون ، هجرة الأثيوبيين في العهد السديمي ، الثور المُجنَح ...
المحاكاة والمماثلة في اقتران اسم البطل باسم الروائي تضفي مصداقية للصراع الذاتي والأحاسيس والمشاعر التي يتم وصفها والذاكرة المنسوج منها الإدراك العقلاني للأمور ، وتؤدي إلى تمازج الوعي باللاوعي والتي تتعدى الإدراك الحسي المباشر لدى الكاتب ، فالبطل في الرواية سينمائي من أعماله "ساعات الصفر" و"مياه متصحرة" ، يشار لها بأعمال مسرحية وروائية للكاتب في الواقع تصير لها قيمتها كموروث شعبي وفني بعد موته في كلتي الحالتين ..
تتابع الأحداث وتسلسلها الذهني يحافظ على عنصر التشويق ويمنح القارئ ، كونه جزءاً من حلقة التواصل بين العمل والكاتب ، القدرة على المشاركة في تأمل موضوع الطائفية التي تُقحم نفسها في تفكيك بنية المجتمع ..
البدء من النهاية باعتماد تقنية الاسترجاع الفني لرسم مدخل الرواية كان له قيمة في توضيح الصورة استناداً للحدث في الماضي "الاحتضار" وتعليله من خلال جثته التي تنازعوا على دفنها ، والنقطة الأهم ليهتدي القارئ لنقطة : من أين جاء عنوان الرواية ، حيث يقول حازم كمال الدين "وكأنها أرضٌ عصيةٌ على إنتاج أساطير لا يروي نسغها إلا دماء الأولياء والأئمة ، ولا يخصبها سوى تصحر الأنهار ، ولا ينير سماءها غير احتجاب الأقمار عاراً واتشاح الشموس بدخان المدن المحترقة .."
يؤرخ أ. حازم كمال الدين لروايته ويمنحها البعد التاريخي من خلال عبارته "انقلاب شباط الدموي" التي توضح الصراع بين التيار القومي واليساري الذي على إثره تشتت المجتمع الواحد وغدت الانقلابات حتى على الذات التي تطمح بالسمو ما تُسير الاتجاه الوطني ..
استخدم حازم كمال الدين أسلوبيّ التضاد والتشخيص لمنح اللفظ المعنى المجازي ورسم المشهد الوصفي ، ومثاله "ظلام حليبي" حينما أخبر عن بطولة الجد في القضاء على الثور المجنح " انقلبت بقية الجنائن المعلقة واندلقت كهوفها إلى الأعلى واندفن رأسها في الأخاديد ، وساحت أمعاؤها كحمم البراكين فبان في أعماقها ظلامٌ حليبيّ حالك التف حول جدنا الأكبر فاختفى بمثل سرعة ما ظهر " ..
اعتمد الكاتب في الحوارات الدائرة داخل العمل أسلوب التكرار ، فمثلاً تكررت عبارة في أكثر من موقف وموضع "وإلا ذبحتك ، سأذبحك ، والله العظيم أذبحك ، بشرفي أذبحك " وفي ذلك تأكيد على أن الإنسان يُنمي صوت الشر داخله في نزاعه الدائم مع الوضع العام لمجتمعه من صراعات وحروب وهذا ما يحذو به للبحث عن ميزان القوة ليحتمي به ويتمثل به تحت مسمى المجموع .. أيضاً كان يصف نفسه "أنا حازم كمال الدين السفّاح" الذي برر التنابز بهذا اللقب بأنهم أجمعوا أن جده الأكبر الذي قتل الديك دموي ، " ما أن يدرك أهل القرية معنى الرأس المقطوع فوق راحة الكف حتى ينهالوا بصب اللعنات على القاتل ...
سيعلنون أن رقابنا تحمل خطيئة دم ، ولأن أيادينا ملطخة بدم الديك سيطلقون على عائلتنا لقب السفاحين الذين لا يتورعون عن إراقة الدماء . من هنا سيظهر لقب السفّاح كنية للأسرة . أنا حازم كمال الدين السفّاح" ..
تحمل الرواية ثيمة الشاشة ثلاثية الأبعاد بما فيها من خيال وواقع وأيدلوجيا ..
حازم كمال الدين روائي ومسرحي عراقي ، كتب وأخرج ما يزيد عن الثلاثين مسرحية ، حصل على الجائزة الأولى عام 2014 من قبل الهيئة العربية للمسرح عن مسرحيته "السادرون في الجنون" ، من أعماله : مجموعتان قصصيتان "بلح رائع" و "ضريح الصمت" ، مسرحيات مثل "تحت مرقد السيدة" و"العدادة" ، بحوث "بيت القصب" و "المسرح والهوية" ، روايات "أورال" ، "كاباريهت" و "مياه متصحرة" الأخيرتين عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ...