ما عاشه الطاهر عاشه الكثيرون ممن حلموا طويلا وناضلوا طويلا ونفيوا طويلا لتغيير الانظمة العربية الرجعية القمعية والفاسدة. ولكن ما حصل هو ان البدائل التي تصدرت ازاحت هذا الحلم ولم تغير الا الوجوه والاسماء ، واستدعاء الله سبحانه وتعالى لتبرير القيام بما كان يقوم به الآخرون واخيرا اسدال غطاء من اشكال ديقراطية لا تندرج الا في اطار اوهام الثورة التي تحدث عنها لبيب.
واذا كان البعض يرون – كما رأى المفكر التونسي العروبي – ان المشكلة تكمن في غياب القائد او القيادة ، وفيما اسماه الانتقال من ثوّار بلا ثورة الى ثورة بلا ثوّار . فان هذين التحليلين يلتقيان ولكنهما يتقاطعان ولا يتماهيان. لان القيادة وحدها لا تكفي اذا ما تحققت بالشكل الذي عرفته الثورات العربية السابقة. ذاك ان تحقق الشرط الثاني ، اي وجود الثوار الحقيقيين هو الشرط الحتمي لعدم تحول القيادة الثورية الى ديكتاتورية. والذي نعنيه بالثائر هنا ، هو ذلك المواطن الذي حقق القطيعة مع الانتماءات غير العقلانية والتي تتحول بطبيعتها الى سيكولوجية انعزالية وسلوكيات اقصائية ، اي انها تنتقل من ديكتاتورية الفرد – السلطة او الدائرة الصغيرة- السلطة، المتحلقة حول الفرد ، الى ديكتاتورية جماعة اخرى ترتبط برابط لا خيار عقلانيا فيه، وانما هو فرض بالولادة : رابط الدين او المذهب او الطائفة او العرق او العشيرة . وخارجه لا مواطنة ولا حقوق ولا مساواة .
من هنا لا يمكن لكلمة ثائر ان تكون ذات معنى الا اذا احتوت في دلالتها القطيعة الكاملة مع هذه الحالة المتخلفة التي تعود علميا الى ما قبل المجتمع ، وما قبل الدولة. حيث ان المجتمع هو المتحد الاجتماعي – الذي تذوب فيه الهويات الفرعية التجزيئية القاتلة ، في بؤرة هوية واحدة هي الهوية الوطنية – الاجتماعية ، ومن ثم تأتي الدولة لتشكل الاطار الدستوري السياسي لهذا المجتمع – الامة . وفي اطارهما يتمتع المواطن بكل حقوقه التي يكرسها القانون بحجة واحدة : كونه مواطنا لا غير. هكذا حققت امم العالم ثوراتها التي وضعتها على سكة القطار السريع للحضارة الانسانية ، وبعكس هذا تماما تتجه ثوراتنا العربية الحالية ، بعد ان ادت محاولات تحقيق ثورات تستند الى المفهوم الحضاري الحديث الى فشل تحول الى قيام انظمة ديكتاتورية تحمي سلطتها بالمال والقمع، اذن بالفساد. وبما ان هذه الحماية تحتاج الى الحماية جعل منها رهينة القوى الكبرى.
وهنا يكون من الحتمي ان يبدأ التغيير من العلة لا من النتائج. غير ان التغيير جاء ليكرس العلة ويعمقها ويجذرها ويدفعها الى ظلامية قرسطوية غير مسبوقة، مغطيا على كل ذلك بوهم انتخابات مزورة للارادات ، بدءا من عدم وجود هذه الارادات بحد ذاتها بناء على مبدأ ان لا ارادة لمن هو مغيب الوعي، منوم مغناطيسيا بالعقد والغرائز والجهل. ووصولا الى ان انتخابات تقوم في غياب الجدل العام والحريات الفكرية التي تؤدي الى خيار مبني على العقلية النقدية ووعي المواطن بحقوقه وحقوق الوطن بعيدا عن اية قطعانية من اي لون ، هي عملية لا تكرس الا التخلف القائم والتصادم بين الهويات القاتلة الذي لا يشبه باي حال الصراع الفكري والمنافسة السياسية الحقة وبذا يكرس العودة السريعة الى الوراء. فنجدنا نركب القطار السريع الذي تركبه الثورات ولكن بالاتجاه العكسي .