الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية منظر من الطراز الأول، له آراؤه ورؤاه واجتهاداته الإشكالية التي تتسم بالجرأة العلمية والأدبية، لخروجها عن الأنماط التقليدية السائدة، عاش عقودا من حياته في المهجر القسري، وبعد الثورة التونسية المباركة عاد إلى بلاده ليقود مسيرة حركته نحو السلطة وتولي رئاسة الحكومة، بعد مرحلة السجون والمهاجر، وكعهده في صراحته ووضوحه، فإنه بعد مرور ما يقارب عامين على تجربة حركته في الحكم، لا يتردد عن الإشارة إلى مواضع الخلل والقصور، ويحدد بكل وضوح الدروس والعبر المستفادة من التجربة.
في تصريحات حديثة له عبر حوار أجرته معه مجلة المجتمع الكويتية، ونشرته في عددها الصادر بتاريخ 2/2/2013، قال في جوابه عن سؤال حول الخلاصات التي توصلت إليها الحركة الإسلامية (النهضة) بعد هذه الفترة القصيرة من مشاركتها في الحكم: «دائماً يبقى هناك بون بين النظرية والتطبيق، مهما اجتهدنا يظل هناك بون بين ما يطاله البصر وما تطاله اليد، ما يتطلبه الواقع وما تتحكم فيه الإمكانات، اكتشفنا أن الواقع أصلب بكثير وأكثر استعصاء على التغيير مما توقعنا، والعقبات أكثر مما توقعنا».
في تصريحات سابقة للشيخ الغنوشي وردت عبر حوار أجراه معه موقع «إسلام أون لاين»، قال الشيخ الغنوشي في جوابه عن سؤال حول موقف الحركة من صياغة الدستور والتفريق بين الإسلام والشريعة، والتخوف من أن يعصف ذلك بمصداقية الحركية لدى القواعد التي انتخبتها: «أنا أثق بعد الله سبحانه وتعالى في شعبنا وفي وعيه، فللناس عقول، الناس أخذهم الحماس في المدة الأولى ورغبوا في أن نمضي مع النشوة إلى النهاية، ولكن عندما اتصلنا بإخواننا وتحاورنا معهم بدأ العقل يأخذ موقعه، ويفتح للناس عيونهم على شيء اسمه «ميزان القوة»، وهو شيء كثيرا ما جهلناه نحن الإسلاميين، حيث تصورنا أن كل ما نعتقد أنه حق قابل لأن ينزل إلى الأرض، ولكن تنزيله في الواقع، ينبغي أن تُنزلوا الإسلام في الواقع بحسب ما يُطيق ميزان القوة، وبكل معاني ميزان القوة: المحلية والدولية، وإذا تجاهلتم ذلك فالسنن كما يقول الشيخ حسن البنا غلّابة، وستتغلب سنن الواقع عليكم...».
خلاصة هذه التجربة تقول بأن على العاملين الطامحين إلى إحداث التغيير والإصلاح، أن يعوا طبيعة الواقع الذي يتحركون فيه، وأن يدركوا أن الساحة ليست خالية لهم، ليقوموا بتنفيذ ما يحلمون به ويتطلعون إليه، بل هناك قوى وجهات متنفذة لها أدواتها وآلياتها ونفوذها، وهي تسعى لإفشال المشروع الإسلامي، وتقف بكل قوتها وجبروتها ومؤسساتها وثرواتها الطائلة، وآلياتها وإمكاناتها، في وجه ذلك المشروع، مع استعدادها التام لعمل كل ما بوسعها لإفشال المشروع وإسقاطه.
كما أن إشارة الغنوشي إلى اعتبار «ميزان القوة» وأخذه بالحسبان أمر بالغ الأهمية، وكثير الخطورة، فقد يتوهم بعض العاملين أن الأمور ملك أيديهم، وأنهم قادرون على تنفيذ ما يتطلعون إليه، مع عدم تقدير حجم المعوقات والعقبات التي تعترض سبيل العمل والتنفيذ، كما أن من التوهم التعويل على الأغلبية الانتخابية التي من الوارد تبديدها حينما يتم التفاف القوة المتنفذة على نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع، فتجهض التجربة، وتغتال التطلعات كما وقع في تجربة جبهة الإنقاذ الجزائرية مطلع تسعينيات القرن الماضي.
لعل إمعان النظر في كلام الغنوشي والوقوف عنده مليا، يحمل من يراقبون تجربة الإسلاميين في الحكم من خارجها، على التأني في تقدير مواقفهم من أداء الإسلاميين في الحكم والسلطة، وعدم التشدد والمغالاة في نقدهم، ورميهم بالتساهل والتفلت، وتضييع أحكام الشريعة، وعدم الحرص على دينهم وعقيدتهم، والانسياق وراء سراب خادع لا يمكن أن يوصل إلى شيء، فمعطيات الواقع تقول بكل وضوح إن الحكم ليس بكليته في أيدي الإسلاميين، وإن كانوا هم في الظاهر من يتسلمون زمام السلطة، فثمة قوى وجهات ومراكز ما زالت تقبض على مفاصل الحياة السياسة، وتتحكم فيها، ومن الخير للإسلاميين أن يدركوا حجمهم الحقيقي، فيديروا الأمور وفق موازين القوة تلك، دون أن يخدعوا أنفسهم أو يموهوا على أتباعهم وقواعدهم الجماهيرية.