في ما يمكن وصفه بالاختراق الاستراتيجي، حل رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، ضيفا استثنائيا على الروس؛ جاء للبحث في أسس شراكة عميقة وواسعة النطاق، من السلاح إلى النفط إلى التبادل التجاري ومشروعات إعادة البناء إلى التعليم الجامعي وتأهيل الكوادر.
ماذا يعني ذلك سوى الإعلان الصريح عن الهزيمة الأمريكية في العراق؟
منذ انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق، ظهرت مؤشرات متتابعة على المضمون الانهزامي لذلك الانسحاب؛ صحيح أن السفير الأمريكي لم يفرّ ـ كما تمنينا بطائرة مروحية ـ لكن الاحتلال انتهى من دون قواعد أمريكية، ومن دون نفوذ أمريكي صريح، بل خيمت على العراق صيغة غامضة من التفاهم بين واشنطن وطهران، مع ترجيح للنفوذ الإيراني.
الأزمة السورية هي التي ظهّرت مدى استقلالية القرار العراقي إزاء واشنطن؛ وقفت بغداد إلى جانب دمشق، ليس فقط كممر إيراني للمساعدات، وإنما، أيضا، كشريك في الدعم، وكحليف في مواجهة الخليج.
وعلى هذه الخلفية بالذات، اندلع الصراع بين قوى الإسلام السياسي السني وحكومة كردستان من جهة وحكومة نوري المالكي من جهة أخرى. وأسوأ أوجه ذلك الصراع هو تصاعد العمليات الإرهابية المكثفة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، المدعوم من قبل الإسلاميين والخليج. هذه العمليات انقلبت من العداء للأمريكيين إلى العمل لصالحهم.
ربما كان المالكي ـ رجل العراق القويّ المتشبّه بأداء صدام حسين ـ ينتظر الفرصة لكي يظهّر مدى استقلالية بغداد إزاء واشنطن وطهران معا، حتى تبلور الوضع السياسي الإقليمي والدولي عن مشهد جديد؛ تراجع أمريكي على كل الجبهات وتقدّم روسي حثيث إلى التعددية القطبية في السياسة الدولية.
يتحرك المالكي، بحرية، في المشهد الجديد، من موقع جديد؛ فدمشق لم تعد تلك القوة الباحثة عن النفوذ في العراق، ولكن عن الدعم والمساندة، وطهران لم تعد الحليف الأكبر، بل تحولت إلى الرقم 2 في حلف تترأسه موسكو، ويشتمل على الصين وإيران والعراق وسورية ولبنان. وفي فضاء هذا الحلف ترسخت حقائق استراتيجية ملائمة لبغداد؛ لا تسامح ولا مصالحة مع الإخوان والسلفيين والقاعدة، وأية تسوية في سورية، حتى لو كانت تشتمل على تغييرات عميقة، لن تضم أيا من قوى الإسلام السياسي، وينطبق ذلك، بالطبع، على العراق، المستفيد، أيضا، من الخطوط الاستراتيجية الآخذة في التحدُّد مع الخليج. فالتسوية الممكنة في آسيا العربية، هي مشرق روسي في مقابل اقتصار النفوذ الأمريكي في حدود الجزيرة العربية. لكنه سيظل نفوذا قلقا مستنزفا بالضغوط الخارجية وعوامل التفكك الداخلي.
خارج الترسيم الجيوسياسي يقبع الإسرائيليون والفلسطينيون والأردنيون. مصير إسرائيل أصبحت ملامحه واضحة: الانكفاء وراء الجدار الاستيطاني في قلعة مجمدة، قوية وحصينة ولكنها عاجزة عن التدخّل خارجها.
وبالنسبة للفلسطينيين، فإن المطروح عليهم غزة ونصف الضفة الغربية والمحاصصة في الأردن في إطار كونفدرالية أو من دونها. وليس هناك أي اقتراح بالنسبة للأردنيين التائهين سوى القبول بحصيلة الصراعات والتسويات.
على هذه الخلفية، يأتي اقتراحي الاستباقي والواقعي؛ ليس أمامنا سوى ترتيب العلاقات مع الحلف الروسي ـ الإيراني ـ المشرقي. لن نستطيع، بسبب تعقيدات عديدة، أن نكون جزءا منه، ولكننا نستطيع أن نتحرك في سياقه؛ لدينا علاقات طيبة مع موسكو، ينبغي العمل على تطويرها بعمق وجدية وفي مختلف المجالات، ولدينا إرث طيب من العلاقات مع العراق، ينبغي العمل على استعادتها من دون إبطاء. لبغداد مصلحة استراتيجية في إحياء تلك العلاقات لضبط المناطق الغربية وتلافي تموضع الأردن في حلف خليجي ضدها، وللأردن مصلحة استراتيجية مع العراق، ليس فقط في الطاقة والمجالات الاقتصادية، ولكن، بالأساس، لتحصين استقلالنا وقدرتنا على مواجهة مشروعات الإلغاء.
آن الأوان لصحوة أردنية استراتيجية تدرك أن الزمن الأمريكي الخليجي زائل، وأن الأردنيين يواجهون استحقاق إعادة التموضع الجيوسياسي للحفاظ على وطنهم وكيانهم .