منذ إندلاع رياح الربيع العربي انشغلت الأوساط الدولية والعربية بالتغييرات السياسية والاجتماعية التي أفرزتها ثورة الشباب العربي، والتي تمثلت بإسقاط أنظمة حكم امتازت بالاستبداد والتسلط واستبدالها بأخرى ديمقراطية منتخبة من خلال صناديق الاقتراع. إلا أن الهاجس الأساسي الذي راود الشعوب العربية الثائرة على حكامها تمثل في مدى قدرة الحكام الجدد على توفير ما عجزت عنه الأنظمة السابقة عبر قرون طويلة من الحكم وهو إطلاق الحقوق والحريات الفردية. فتصدرت التيارات الإسلامية في كل الدول التي أسقطت حكامها بورصة الأسماء المرشحة للخلافة، حيث سيطر الإسلاميون على البرلمان التونسي والمغربي ومن قبله مجلس الشعب المصري، قبل أن تبلغ نجاحات الإسلاميين ذروتها بإيصال أول رئيس جمهورية مصري منتخب ينتمي إلى حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين وهو الدكتور محمد مرسي.
وفي ظل هذه الأوضاع المستجدة من سقوط أنظمة الحكم العربية الدكتاتورية ذات الارتباطات الغربية واستبدالها بأخرى إسلامية أقرب إلى التشدد، فقد برز التخوف الأكبر حول حماية حقوق الأقليات الدينية في ظل المد الإسلامي الجديد الذي أخذ يغزو العالم العربي. فالنتائج الأولية للربيع العربي تشير إلى تعزيز مواقع الإسلاميين الراديكاليين أو المتطرفين في المنطقة بأسرها، ما جعل الطوائف المسيحية في مصر وسورية ولبنان تشعر بقلق شديد على مستقبلها وتفكر جديا في الهجرة من الشرق الأوسط الى أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وذلك خشية أن تواجه المصيرالذي تعرض له مسيحيو العراق من القتل والتشريد عقب سقوط نظام صدام حسين.
إن نقطة الإنطلاق في الحديث عن حقوق الأقليات الدينية في ظل الربيع العربي تتمثل في تأكيد أن الأقليات الدينية في العالم العربي لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عن التغييرات السياسية التي شهدها عدد من الدول العربية. فقد عانت هذه الأقليات ويلات القهر والظلم وانعدام الحقوق والحريات الإنسانية، وإن كانوا أقل اضطهادا بالنسبة لعقيدتهم الدينية. فمن حسنات الأنظمة الاستبدادية العربية التي تهاوت تباعا المساواة في الظلم والقهر وعدم التمييز بين شعوبها على أساس العرق أو الدين أو المعتقد. فالأحكام العرفية وحالة الطوارئ التي عانت منها كل من مصر وسورية لعقود من الزمن لم تكن لتميز بين مسلم مصري وقبطي وبين مسلم سوري وعلوي. كما أن الظلم والاضطهاد الذي تعرض له كل من الشعب التونسي والليبي كان واحدا بغض النظر عن الأجناس والمعتقدات الدينية.
ورغم أن بعض مظاهر حماية حقوق الأقليات الدينية قد ظهرت على السطح عقب الثورات العربية أهمها ما نادى به رئيس حزب النهضة الإسلامي التونسي راشد الغنوشي من أن حزبه سيعترف بالتنوع الديني في تونس وتوثيق الدستور المغربي الجديد لحقوق الأقليات من خلال اعتبار اللغة البربرية لغة رسمية في الدولة، إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الثورات العربية ومفرزاتها السياسية ستمر بسلام من دون تهديدات حقيقية لحقوق الأقليات الدينية في الشرق من مسيحيين وأقباط وعلويين وأكراد ودروز وآشوريين. فبوادر التوتر الطائفي والعقائدي قد بدأ يطفو على سطح العالم العربي في مصر عقب ثورة 25 يونيو ضد المسيحيين الأقباط المعروفين بولائهم لنظام مبارك السابق، ليس تأييدا لشخصه وسياسة حكمه، بل لما امتازت به سياسته من التحكم في الصراع الإسلامي القبطي، فكانت الأحكام العرفية والسطوة الأمنية على نشاط الإخوان المسلمين وعلى أية محاولة لإثارة الفتنة الطائفية كفيلة بحماية حقوق الأقليات القبطية في مصر. وهذا ما يؤيده الدكتور قمر الهدى كبير باحثي الديانات بمعهد الولايات المتحدة للسلام الذي يرى أن التوتر الطائفي الذي بدأ يطفو على سطح العالم العربي بعد سقوط الأنظمة لم يكن مفاجئا لأن الأنظمة السابقة درجت على حجبه، ويضرب حول ذلك مثالا بمصر، إذ يؤكد أن التوتر الطائفي في عهد مبارك كان يتم التحكم به بالقوة، وكان محجوبا لأن المرء كان يخشى الحديث عنه نظرا للشدة التي كان يواجه بها النظام السابق أية محاولة لإثارة الفتنة الطائفية.
وبعد انطلاق ثورة يونيو المصرية، تعرض المسيحيون الأقباط لسلسلة شرسة من الهجمات التي قادتها ضدهم التيارات الإسلامية المتشددة تمثلت في الاعتداء على العديد من الكنائس وحرق منازل الاقباط وتهجيرهم لبث الخوف فى قلوبهم في محاولة لوضع حجر الأساس لقيام دولة دينية اسلامية، وأشهر هذه الاعتداءات الاعتداء التفجيري المشؤوم ضد كنيسة القديسين في مدينة الاسكندرية عشية احتفالات الأقباط برأس السنة الميلادية والذي أوقع 21 قتيلا وحوالي 97 مصابا. وقد وصل الإضطهاد الديني ضد الأقباط في مصر إلى منعهم من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة خوفا من قيامهم بالتصويت لصالح أحمد شفيق مرشح النظام السابق ومنافس محمد مرسي في الانتخابات. فقد ادعت حملة شفيق الانتخابية أن أعضاء لجان التصويت والفرز في صعيد مصر في محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط كانوا يمنعون دخول الناخبين الأقباط إلى مراكز الاقتراع خوفا من التصويت لأحمد شفيق.
وأمام هذه التطورات الخطيرة في حملة الانتخابات الرئاسية المصرية، كان لا بد للرئيس المصري المنتخب مرسي من تغليب صوت العقل والحكمة وتهدئة الخواطر، فبادر وعلى الفور بتعيين نائب محافظ القاهرة السابق القبطي سمير مرقص مساعداً له، وهو الأمر الذي حظي بترحيب الأقباط الذين عبروا عن تأييدهم الشديد لشخصية مرقص السياسية والفكرية. كما أعلنت الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات التشريعية التي ستتخذها لحماية حقوق الأقليات المسيحية القبطية تتمثل في إصدار قانون موحد لتنظيم تأسيس دور العبادة يُطبق على الأقباط والمسلمين بالتساوي، وقانون جديد يحظر المظاهرات قرب المواقع الدينية ويجرّم الاعتداءات الطائفية. كما أطلق الأزهر الشريف مبادرة "بيت العائلة" لتشجيع الحوار البناء بين المسيحيين والمسلمين من أجل القضاء على أية مظاهر للصراع الطائفي والعقائدي بينهما.
كما تزداد المخاوف من تأثير الربيع العربي سلبا على حقوق الأقليات الدينية من الطريقة الشعبية التي وصلت فيها الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم وذلك من خلال انتخابات برلمانية شهدتها كل من مصر وتونس والمغرب، وهو ما يضفي على حكمهم صفة الديمقراطية، وعلى أية قرارات سيادية يتخذونها تتضمن تقييدا على حقوق الأقليات الدينية صفة المشروعية. وهذا ما أكده جيمس زغبي مدير مؤسسة العرب الأمريكيين بقوله أن طريقة صعود التيارات الإسلامية في الانتخابات الأخيرة في العالم العربي سيكون له أكبر الأثر على تصعيد التوتر الطائفي بالنظر إلى الطريقة التي وصلوا بها للحكم واعتمادها على الدين لتحقيق مكاسب شعبية وكسب ود ومشاعر الشعوب العربية الثائرة للاستحواذ على السلطة. فقد قدّم الإسلاميون من خلال حركاتهم الاحتجاجية البديل الأمثل لعقود طوال من الظلم والاستبداد، وذلك من خلال الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها، والتغني بمبدأ أن الإسلام هو الحل الأمثل للتخلص من ويلات الدولة المدنية، مما ضمن لهم القفز إلى سدة السلطة في وقت زمني قصير.
وفي ضوء الإجماع على أن حدا معينا من التوتر بين الأقليات الدينية هو نتيجة طبيعية لثورات الربيع العربي، فإن التساؤل الذي يثور يتمثل في كيفية مواجهة مثل هذا التوتر والقضاء عليه بأسرع وقت ممكن كي تتمتع الأقليات الدينية بحماية مدنية لحقوقها وحرياتها الأساسية، وكي لا تنقلب أهداف الثورات العربية من تحقيق العدل والمساواة إلى نشر الظلم والاستبداد بحق الأقليات الدينية.
يمكن تقسيم الوسائل التي يمكن من خلالها احتواء أي توتر طائفي أو اعتداء على حقوق الأقليات الدينية عقب الثورات العربية إلى وسائل سياسية ووسائل قانونية. وتتمثل الوسائل السياسية في تقليص الأزمات الاجتماعية التي عاشتها الشعوب العربية إبان الثورات، وتحقيق الأهداف التي قامت عليها الثورة في توفير حياة كريمة للأفراد وإطلاق الحقوق والحريات الأساسية. وهذا ما أكده الدكتور قمر الهدى بقوله : وسط التغييرات السياسية في أنظمة الحكم وصعود التيار الإسلامي يبقى الأفراد يتطلعون إلى نوع من الشعور بالأمان والاستقرار، ويربطون عملية التغيير السياسي بالحاجة إلى ضمانات اجتماعية واقتصادية، فهم يتساءلون هل سيعمل الاقتصاد بعد الثورة بشكل أفضل مما كان عليه قبل الثورة؟ وهل سيستمر التعليم ويتطور بعد الثورة؟ وهل سيتوفر الأمن والأمان بعد الثورة وستحل مشكلة البطالة وسينعم الجميع بحياة كريمة؟. فإذا ما تمكنت سلطات الحكم الجديدة من العمل على تعزيز هذه الجوانب الحيوية من الحياة اليومية للأفراد إلى جانب العملية السياسية، فإن الثورة ستحقق أهدافها، وسيتم القضاء على أية محاولة للنيل من حقوق الأقليات.
لذا، فإنه يجب على القادة الجدد الذين أفرزتهم ثورات العرب وربيعهم أن ينفضوا عنهم غبار الأنظمة السابقة، وأن لا يهدفوا بالدرجة الأولى إلى الوصول لمنصب سياسي أو الاستئثار بالسلطة، بل يجب عليهم التواصل مع أفراد الشعب بمختلف أطيافه ومستوياته من خلال حوار حقيقي للوصول إلى نتائج ايجابية تعالج هموم الشعب ومطالبه الحقيقية. فالشعب العربي لم يختار الإسلاميين كبديل عن حكامه المخلوعين لأنهم الأفضل، بل لأنهم هم وحدهم من تقدموا ببرامج ومقترحات عمل بديلة بعد الثورة، فاستفردوا بالحكم لعدم مجود منافس حقيقي لهم. هذا الوضع لن يستمر للأبد، فالشعب العربي سيبادر بعد التخلص من آثار الثورة وعودة الاستقرار إلى تشكيل أحزاب سياسية مختلفة أو الإنضمام للقائم منها، لتكون بديلة عن التيارات الإسلامية الحالية التي إذا لم تلامس هموم الشعب وتراعي مصالحه في المساواة والعدل سيكون نصيبها الهزيمة والإقصاء في الانتخابات المقبلة.
أما الوسائل القانونية الكفيلة باحتواء أي توتر طائفي وضمان حقوق الأقليات الدينية عقب الثورات العربية فتتمثل في تعزيز مفهوم المواطنة الصالحة وربط انتماء الفرد لمجتمعه بمجموعة من الحقوق التي يمكنه اكتسابها، ومجموعة من الواجبات التي لا مفر من التقيد بها واحترامها. فمن أهم المفرزات القانونية للثورات العربية المبادرة إلى تعديل الدساتير العربية القائمة إما بشكل جزئي أو بشكل كلي وذلك من خلال إصدار دساتير عربية جديدة. فالدساتير العربية بعد الثورات يجب أن تتضمن مبادئ أساسية كانت مغيبة في ظل الأنظمة السابقة أو غير مفعلة، كمبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون وعدم التمييز بينهم على أساس العرق أو الدين أو الجنس، ومبدأ أن الأمة مصدر السلطات حيث تمارس الأمة سلطاتها على الوجه المبين في الدستور، ومبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كضمانة أساسية لتوفير حياة كريمة للأفراد تحمي حقوقهم وحرياتهم المختلفة وفي مقدمتها حقوقهم السياسية المتمثلة في حرية الرأي والتعبير وتأسيس الأحزاب السياسية وتكوين الجمعيات وحقهم في الانتخاب والترشح في انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة، ومبدأ الديمقراطية وسيادة القانون. وهذا ما أكده غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي أثناء زيارته الرسمية الأولى إلى باريس في أيلول عام 2012 وأكد أن أفضل حماية لمسيحيي الشرق والضمانة الفعلية لدوام وجودهم تكمن في إقامة الديمقراطية ودولة القانون في البلدان العربية الثائرة.
كما يجب على دساتير الدول العربية التي تصدر بعد الثورات أن تراعي المعايير الدولية الخاصة بحماية الأقليات الدينية والإثنية الصادرة عن منظمة الأمم المتّحدة وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والذي ينص في المادة (2) منه على أنه "لكل إنسان حق التمتع بالحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، من دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، من دون أية تفرقة بين الرجال والنساء". كما تؤكد المادة (7) من الإعلان العالمي على أن "كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه من دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا".
كما تضمن كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نصوصا صريحة تدعو إلى توفير حماية دولية لحقوق الإنسان بشكل متساو من دون تمييز بين الأفراد على أي أساس كان. فقد أكدت المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 على ضرورة أن "تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، من دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب". كما ينص العهد المذكور في المادة (26) منه على أن "الناس جميعا سواء أمام القانون ويتمتعون من دون أي تمييز بحق متساو في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب".
كما يلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (20) منه الحكومات بأن "تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف"، ويحظر في المادة (27) منه "على الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن تحرم الأشخاص المنتسبين إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".
ومن المواثيق الدولية الأخرى التي تتضمن مبادئ تعنى بحماية حقوق الأقليات الدينية إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1963 والذي يعتبر في المادة (1) منه أن "التمييز بين البشر بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الأصل الإثني إهانة للكرامة الإنسانية، ويجب أن يدان باعتباره إنكارا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكا لحقوق الإنسان وللحريات الأساسية المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعقبة دون قيام علاقات ودية وسلمية بين الأمم، وواقعا من شأنه تعكير السلم والأمن بين الشعوب". كما يحظر الإعلان الأممي في المادة (2) منه "على أية دولة أو مؤسسة أو جماعة أو أي فرد إجراء أي تمييز كان، في ميدان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، في معاملة الأشخاص أو جماعات الأشخاص أو المؤسسات بسبب العرق أو اللون أو الأصل الاثني، أو أن تقوم عن طريق التدابير الضبطية أو غيرها بتشجيع أو تحبيذ أو تأييد أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل الاثنى يصدر عن أية جماعة أو أية مؤسسة أو أي فرد". وقد فرض الإعلان المذكور على الدول الأعضاء أن "تتخذ تدابير ملموسة خاصة لتأمين النماء الكافي أو الحماية الكافية للأفراد المنتمين إلى بعض الجماعات العرقية بهدف ضمان تمتعهم التام بحقوق الإنسان والحريات الأساسية".
وقد انبثق عن الإعلان السابق الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 والتي تعد الأشمل فيما يتعلق بحقوق الأقليات الاثنية والعرقية وذلك من خلال تحديدها للإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الدول المصادقة عليها لمنع التمييز والعنف العرقيين وإنماء التوافق بين مختلف الأجناس والأعراق، حيث ألزمت الاتفاقية الدولية في المادة (2) منها الدول الأعضاء بضرورة "شجب التمييز العنصري وبأن تتعهد بأن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ومن دون أي تأخير، سياسة للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله وتعزيز التفاهم بين جميع الأجناس".
كما أن هناك الكثير من الاعلانات الدولية الأخرى التي أصدرتها الأمم المتحدة والتي لها قيمة قانونية كبيرة في مجال حماية حقوق الأقليات الدينية أهمها الإعلان الخاص بالقضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد لعام 1981 والذي يعطي كل إنسان الحق في حرية التفكير والوجدان والدين بشكل لا يجوز معه تعريض أحد لقسر يحد من حريته في أن يكون له دين أو معتقد من اختياره، وإعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو أثنية أو دينية أو لغوية لعام 1992 والذي يلزم الدول الأعضاء بأن تتخذ كافة التدابير التشريعية وغير التشريعية الكافية لتضمن أن يتسنى للأشخاص المنتمين إلى أقليات دينية ممارسة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم ممارسة تامة وفعالة، من دون أي تمييز وفي مساواة تامة أمام القانون.
إن مثل هذه المبادئ والمعايير الدولية الخاصة بحماية حقوق الأقليات الدينية في المنظومة الدولية تصلح بأن يتم تكريسها في دساتير الدول العربية التي اجتاحتها رياح التغيير بنجاح، وذلك بهدف حماية حقوق الأقليات الدينية في ظل الربيع العربي. فالأقليات العربية من مسيحيين وأقباط وعلويين ودروز هم جزء من تاريخ الشرق، ويجب أن لا يكون الهدف من الثورات العربية اقتلاعهم من هذه الأرض، بل يفي الربيع العربي بوعوده إذا ما اُحترِمت هذه الأقليات، وتمكن أصحابها من التمتع بحقوقهم وحرياتهم أسوة بباقي أفراد الشعب العربي الثائر.
منذ إندلاع رياح الربيع العربي انشغلت الأوساط الدولية والعربية بالتغييرات السياسية والاجتماعية التي أفرزتها ثورة الشباب العربي، والتي تمثلت بإسقاط أنظمة حكم امتازت بالاستبداد والتسلط واستبدالها بأخرى ديمقراطية منتخبة من خلال صناديق الاقتراع. إلا أن الهاجس الأساسي الذي راود الشعوب العربية الثائرة على حكامها تمثل في مدى قدرة الحكام الجدد على توفير ما عجزت عنه الأنظمة السابقة عبر قرون طويلة من الحكم وهو إطلاق الحقوق والحريات الفردية. فتصدرت التيارات الإسلامية في كل الدول التي أسقطت حكامها بورصة الأسماء المرشحة للخلافة، حيث سيطر الإسلاميون على البرلمان التونسي والمغربي ومن قبله مجلس الشعب المصري، قبل أن تبلغ نجاحات الإسلاميين ذروتها بإيصال أول رئيس جمهورية مصري منتخب ينتمي إلى حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين وهو الدكتور محمد مرسي.
وفي ظل هذه الأوضاع المستجدة من سقوط أنظمة الحكم العربية الدكتاتورية ذات الارتباطات الغربية واستبدالها بأخرى إسلامية أقرب إلى التشدد، فقد برز التخوف الأكبر حول حماية حقوق الأقليات الدينية في ظل المد الإسلامي الجديد الذي أخذ يغزو العالم العربي. فالنتائج الأولية للربيع العربي تشير إلى تعزيز مواقع الإسلاميين الراديكاليين أو المتطرفين في المنطقة بأسرها، ما جعل الطوائف المسيحية في مصر وسورية ولبنان تشعر بقلق شديد على مستقبلها وتفكر جديا في الهجرة من الشرق الأوسط الى أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وذلك خشية أن تواجه المصيرالذي تعرض له مسيحيو العراق من القتل والتشريد عقب سقوط نظام صدام حسين.
إن نقطة الإنطلاق في الحديث عن حقوق الأقليات الدينية في ظل الربيع العربي تتمثل في تأكيد أن الأقليات الدينية في العالم العربي لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عن التغييرات السياسية التي شهدها عدد من الدول العربية. فقد عانت هذه الأقليات ويلات القهر والظلم وانعدام الحقوق والحريات الإنسانية، وإن كانوا أقل اضطهادا بالنسبة لعقيدتهم الدينية. فمن حسنات الأنظمة الاستبدادية العربية التي تهاوت تباعا المساواة في الظلم والقهر وعدم التمييز بين شعوبها على أساس العرق أو الدين أو المعتقد. فالأحكام العرفية وحالة الطوارئ التي عانت منها كل من مصر وسورية لعقود من الزمن لم تكن لتميز بين مسلم مصري وقبطي وبين مسلم سوري وعلوي. كما أن الظلم والاضطهاد الذي تعرض له كل من الشعب التونسي والليبي كان واحدا بغض النظر عن الأجناس والمعتقدات الدينية.
ورغم أن بعض مظاهر حماية حقوق الأقليات الدينية قد ظهرت على السطح عقب الثورات العربية أهمها ما نادى به رئيس حزب النهضة الإسلامي التونسي راشد الغنوشي من أن حزبه سيعترف بالتنوع الديني في تونس وتوثيق الدستور المغربي الجديد لحقوق الأقليات من خلال اعتبار اللغة البربرية لغة رسمية في الدولة، إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الثورات العربية ومفرزاتها السياسية ستمر بسلام من دون تهديدات حقيقية لحقوق الأقليات الدينية في الشرق من مسيحيين وأقباط وعلويين وأكراد ودروز وآشوريين. فبوادر التوتر الطائفي والعقائدي قد بدأ يطفو على سطح العالم العربي في مصر عقب ثورة 25 يونيو ضد المسيحيين الأقباط المعروفين بولائهم لنظام مبارك السابق، ليس تأييدا لشخصه وسياسة حكمه، بل لما امتازت به سياسته من التحكم في الصراع الإسلامي القبطي، فكانت الأحكام العرفية والسطوة الأمنية على نشاط الإخوان المسلمين وعلى أية محاولة لإثارة الفتنة الطائفية كفيلة بحماية حقوق الأقليات القبطية في مصر. وهذا ما يؤيده الدكتور قمر الهدى كبير باحثي الديانات بمعهد الولايات المتحدة للسلام الذي يرى أن التوتر الطائفي الذي بدأ يطفو على سطح العالم العربي بعد سقوط الأنظمة لم يكن مفاجئا لأن الأنظمة السابقة درجت على حجبه، ويضرب حول ذلك مثالا بمصر، إذ يؤكد أن التوتر الطائفي في عهد مبارك كان يتم التحكم به بالقوة، وكان محجوبا لأن المرء كان يخشى الحديث عنه نظرا للشدة التي كان يواجه بها النظام السابق أية محاولة لإثارة الفتنة الطائفية.
وبعد انطلاق ثورة يونيو المصرية، تعرض المسيحيون الأقباط لسلسلة شرسة من الهجمات التي قادتها ضدهم التيارات الإسلامية المتشددة تمثلت في الاعتداء على العديد من الكنائس وحرق منازل الاقباط وتهجيرهم لبث الخوف فى قلوبهم في محاولة لوضع حجر الأساس لقيام دولة دينية اسلامية، وأشهر هذه الاعتداءات الاعتداء التفجيري المشؤوم ضد كنيسة القديسين في مدينة الاسكندرية عشية احتفالات الأقباط برأس السنة الميلادية والذي أوقع 21 قتيلا وحوالي 97 مصابا. وقد وصل الإضطهاد الديني ضد الأقباط في مصر إلى منعهم من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة خوفا من قيامهم بالتصويت لصالح أحمد شفيق مرشح النظام السابق ومنافس محمد مرسي في الانتخابات. فقد ادعت حملة شفيق الانتخابية أن أعضاء لجان التصويت والفرز في صعيد مصر في محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط كانوا يمنعون دخول الناخبين الأقباط إلى مراكز الاقتراع خوفا من التصويت لأحمد شفيق.
وأمام هذه التطورات الخطيرة في حملة الانتخابات الرئاسية المصرية، كان لا بد للرئيس المصري المنتخب مرسي من تغليب صوت العقل والحكمة وتهدئة الخواطر، فبادر وعلى الفور بتعيين نائب محافظ القاهرة السابق القبطي سمير مرقص مساعداً له، وهو الأمر الذي حظي بترحيب الأقباط الذين عبروا عن تأييدهم الشديد لشخصية مرقص السياسية والفكرية. كما أعلنت الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات التشريعية التي ستتخذها لحماية حقوق الأقليات المسيحية القبطية تتمثل في إصدار قانون موحد لتنظيم تأسيس دور العبادة يُطبق على الأقباط والمسلمين بالتساوي، وقانون جديد يحظر المظاهرات قرب المواقع الدينية ويجرّم الاعتداءات الطائفية. كما أطلق الأزهر الشريف مبادرة "بيت العائلة" لتشجيع الحوار البناء بين المسيحيين والمسلمين من أجل القضاء على أية مظاهر للصراع الطائفي والعقائدي بينهما.
كما تزداد المخاوف من تأثير الربيع العربي سلبا على حقوق الأقليات الدينية من الطريقة الشعبية التي وصلت فيها الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم وذلك من خلال انتخابات برلمانية شهدتها كل من مصر وتونس والمغرب، وهو ما يضفي على حكمهم صفة الديمقراطية، وعلى أية قرارات سيادية يتخذونها تتضمن تقييدا على حقوق الأقليات الدينية صفة المشروعية. وهذا ما أكده جيمس زغبي مدير مؤسسة العرب الأمريكيين بقوله أن طريقة صعود التيارات الإسلامية في الانتخابات الأخيرة في العالم العربي سيكون له أكبر الأثر على تصعيد التوتر الطائفي بالنظر إلى الطريقة التي وصلوا بها للحكم واعتمادها على الدين لتحقيق مكاسب شعبية وكسب ود ومشاعر الشعوب العربية الثائرة للاستحواذ على السلطة. فقد قدّم الإسلاميون من خلال حركاتهم الاحتجاجية البديل الأمثل لعقود طوال من الظلم والاستبداد، وذلك من خلال الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وتعاليمها، والتغني بمبدأ أن الإسلام هو الحل الأمثل للتخلص من ويلات الدولة المدنية، مما ضمن لهم القفز إلى سدة السلطة في وقت زمني قصير.
وفي ضوء الإجماع على أن حدا معينا من التوتر بين الأقليات الدينية هو نتيجة طبيعية لثورات الربيع العربي، فإن التساؤل الذي يثور يتمثل في كيفية مواجهة مثل هذا التوتر والقضاء عليه بأسرع وقت ممكن كي تتمتع الأقليات الدينية بحماية مدنية لحقوقها وحرياتها الأساسية، وكي لا تنقلب أهداف الثورات العربية من تحقيق العدل والمساواة إلى نشر الظلم والاستبداد بحق الأقليات الدينية.
يمكن تقسيم الوسائل التي يمكن من خلالها احتواء أي توتر طائفي أو اعتداء على حقوق الأقليات الدينية عقب الثورات العربية إلى وسائل سياسية ووسائل قانونية. وتتمثل الوسائل السياسية في تقليص الأزمات الاجتماعية التي عاشتها الشعوب العربية إبان الثورات، وتحقيق الأهداف التي قامت عليها الثورة في توفير حياة كريمة للأفراد وإطلاق الحقوق والحريات الأساسية. وهذا ما أكده الدكتور قمر الهدى بقوله : وسط التغييرات السياسية في أنظمة الحكم وصعود التيار الإسلامي يبقى الأفراد يتطلعون إلى نوع من الشعور بالأمان والاستقرار، ويربطون عملية التغيير السياسي بالحاجة إلى ضمانات اجتماعية واقتصادية، فهم يتساءلون هل سيعمل الاقتصاد بعد الثورة بشكل أفضل مما كان عليه قبل الثورة؟ وهل سيستمر التعليم ويتطور بعد الثورة؟ وهل سيتوفر الأمن والأمان بعد الثورة وستحل مشكلة البطالة وسينعم الجميع بحياة كريمة؟. فإذا ما تمكنت سلطات الحكم الجديدة من العمل على تعزيز هذه الجوانب الحيوية من الحياة اليومية للأفراد إلى جانب العملية السياسية، فإن الثورة ستحقق أهدافها، وسيتم القضاء على أية محاولة للنيل من حقوق الأقليات.
لذا، فإنه يجب على القادة الجدد الذين أفرزتهم ثورات العرب وربيعهم أن ينفضوا عنهم غبار الأنظمة السابقة، وأن لا يهدفوا بالدرجة الأولى إلى الوصول لمنصب سياسي أو الاستئثار بالسلطة، بل يجب عليهم التواصل مع أفراد الشعب بمختلف أطيافه ومستوياته من خلال حوار حقيقي للوصول إلى نتائج ايجابية تعالج هموم الشعب ومطالبه الحقيقية. فالشعب العربي لم يختار الإسلاميين كبديل عن حكامه المخلوعين لأنهم الأفضل، بل لأنهم هم وحدهم من تقدموا ببرامج ومقترحات عمل بديلة بعد الثورة، فاستفردوا بالحكم لعدم مجود منافس حقيقي لهم. هذا الوضع لن يستمر للأبد، فالشعب العربي سيبادر بعد التخلص من آثار الثورة وعودة الاستقرار إلى تشكيل أحزاب سياسية مختلفة أو الإنضمام للقائم منها، لتكون بديلة عن التيارات الإسلامية الحالية التي إذا لم تلامس هموم الشعب وتراعي مصالحه في المساواة والعدل سيكون نصيبها الهزيمة والإقصاء في الانتخابات المقبلة.
أما الوسائل القانونية الكفيلة باحتواء أي توتر طائفي وضمان حقوق الأقليات الدينية عقب الثورات العربية فتتمثل في تعزيز مفهوم المواطنة الصالحة وربط انتماء الفرد لمجتمعه بمجموعة من الحقوق التي يمكنه اكتسابها، ومجموعة من الواجبات التي لا مفر من التقيد بها واحترامها. فمن أهم المفرزات القانونية للثورات العربية المبادرة إلى تعديل الدساتير العربية القائمة إما بشكل جزئي أو بشكل كلي وذلك من خلال إصدار دساتير عربية جديدة. فالدساتير العربية بعد الثورات يجب أن تتضمن مبادئ أساسية كانت مغيبة في ظل الأنظمة السابقة أو غير مفعلة، كمبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون وعدم التمييز بينهم على أساس العرق أو الدين أو الجنس، ومبدأ أن الأمة مصدر السلطات حيث تمارس الأمة سلطاتها على الوجه المبين في الدستور، ومبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كضمانة أساسية لتوفير حياة كريمة للأفراد تحمي حقوقهم وحرياتهم المختلفة وفي مقدمتها حقوقهم السياسية المتمثلة في حرية الرأي والتعبير وتأسيس الأحزاب السياسية وتكوين الجمعيات وحقهم في الانتخاب والترشح في انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة، ومبدأ الديمقراطية وسيادة القانون. وهذا ما أكده غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي أثناء زيارته الرسمية الأولى إلى باريس في أيلول عام 2012 وأكد أن أفضل حماية لمسيحيي الشرق والضمانة الفعلية لدوام وجودهم تكمن في إقامة الديمقراطية ودولة القانون في البلدان العربية الثائرة.
كما يجب على دساتير الدول العربية التي تصدر بعد الثورات أن تراعي المعايير الدولية الخاصة بحماية الأقليات الدينية والإثنية الصادرة عن منظمة الأمم المتّحدة وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والذي ينص في المادة (2) منه على أنه "لكل إنسان حق التمتع بالحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، من دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، من دون أية تفرقة بين الرجال والنساء". كما تؤكد المادة (7) من الإعلان العالمي على أن "كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه من دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا".
كما تضمن كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نصوصا صريحة تدعو إلى توفير حماية دولية لحقوق الإنسان بشكل متساو من دون تمييز بين الأفراد على أي أساس كان. فقد أكدت المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 على ضرورة أن "تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، من دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب". كما ينص العهد المذكور في المادة (26) منه على أن "الناس جميعا سواء أمام القانون ويتمتعون من دون أي تمييز بحق متساو في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب".
كما يلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (20) منه الحكومات بأن "تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف"، ويحظر في المادة (27) منه "على الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن تحرم الأشخاص المنتسبين إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".
ومن المواثيق الدولية الأخرى التي تتضمن مبادئ تعنى بحماية حقوق الأقليات الدينية إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1963 والذي يعتبر في المادة (1) منه أن "التمييز بين البشر بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الأصل الإثني إهانة للكرامة الإنسانية، ويجب أن يدان باعتباره إنكارا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكا لحقوق الإنسان وللحريات الأساسية المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعقبة دون قيام علاقات ودية وسلمية بين الأمم، وواقعا من شأنه تعكير السلم والأمن بين الشعوب". كما يحظر الإعلان الأممي في المادة (2) منه "على أية دولة أو مؤسسة أو جماعة أو أي فرد إجراء أي تمييز كان، في ميدان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، في معاملة الأشخاص أو جماعات الأشخاص أو المؤسسات بسبب العرق أو اللون أو الأصل الاثني، أو أن تقوم عن طريق التدابير الضبطية أو غيرها بتشجيع أو تحبيذ أو تأييد أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل الاثنى يصدر عن أية جماعة أو أية مؤسسة أو أي فرد". وقد فرض الإعلان المذكور على الدول الأعضاء أن "تتخذ تدابير ملموسة خاصة لتأمين النماء الكافي أو الحماية الكافية للأفراد المنتمين إلى بعض الجماعات العرقية بهدف ضمان تمتعهم التام بحقوق الإنسان والحريات الأساسية".
وقد انبثق عن الإعلان السابق الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 والتي تعد الأشمل فيما يتعلق بحقوق الأقليات الاثنية والعرقية وذلك من خلال تحديدها للإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الدول المصادقة عليها لمنع التمييز والعنف العرقيين وإنماء التوافق بين مختلف الأجناس والأعراق، حيث ألزمت الاتفاقية الدولية في المادة (2) منها الدول الأعضاء بضرورة "شجب التمييز العنصري وبأن تتعهد بأن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ومن دون أي تأخير، سياسة للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله وتعزيز التفاهم بين جميع الأجناس".
كما أن هناك الكثير من الاعلانات الدولية الأخرى التي أصدرتها الأمم المتحدة والتي لها قيمة قانونية كبيرة في مجال حماية حقوق الأقليات الدينية أهمها الإعلان الخاص بالقضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد لعام 1981 والذي يعطي كل إنسان الحق في حرية التفكير والوجدان والدين بشكل لا يجوز معه تعريض أحد لقسر يحد من حريته في أن يكون له دين أو معتقد من اختياره، وإعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو أثنية أو دينية أو لغوية لعام 1992 والذي يلزم الدول الأعضاء بأن تتخذ كافة التدابير التشريعية وغير التشريعية الكافية لتضمن أن يتسنى للأشخاص المنتمين إلى أقليات دينية ممارسة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم ممارسة تامة وفعالة، من دون أي تمييز وفي مساواة تامة أمام القانون.
إن مثل هذه المبادئ والمعايير الدولية الخاصة بحماية حقوق الأقليات الدينية في المنظومة الدولية تصلح بأن يتم تكريسها في دساتير الدول العربية التي اجتاحتها رياح التغيير بنجاح، وذلك بهدف حماية حقوق الأقليات الدينية في ظل الربيع العربي. فالأقليات العربية من مسيحيين وأقباط وعلويين ودروز هم جزء من تاريخ الشرق، ويجب أن لا يكون الهدف من الثورات العربية اقتلاعهم من هذه الأرض، بل يفي الربيع العربي بوعوده إذا ما اُحترِمت هذه الأقليات، وتمكن أصحابها من التمتع بحقوقهم وحرياتهم أسوة بباقي أفراد الشعب العربي الثائر.