تسأل الغالبية الصامتة الآن ما إذا كان سيؤدي رحيل حكومة د. فايز الطراونة ومجلس النواب المطواع، خلال الأيام القادمة، إلى حلحلة الأزمة السياسية الداخلية الحادة، وتحضير المناخ العام لإجراء انتخابات تشريعية، وضمنه حفز جمهور المترددين على الانضمام إلى سجل الناخبين.
تغيير قيادات "التنفيذية" وحل "التشريعي" -بحسب التسريبات- قد يساهمان قليلا في لملمة الوضع المنفلت، واستعادة رضى فئات مؤثرة تضرّرت مصالحها من سياسات الحكومة الحالية، أو من مواقف النواب الزئبقية. لكن التغيير لن يوقف مسار الانحدار السريع بعد أن ظنّت السلطة أن دفن الجمر تحت السجادة، وتجاهل مطالب الحراك، قد يطفئان غضب الشارع المقهور.
باب الإصلاح السياسي المشرع على نصفه لن يتحرك ما لم يرافق رحيل الحكومة والبرلمان تغييرات نوعية في النهج السياسي وآلية تشكيل الحكومات، وما لم يوضع على الطاولة مشروع قانون انتخاب جديد يبني التوافق المطلوب، وما لم يفك التداخل بين السلطات ويطلق العنان للسلطة الرابعة.
تغيير الشخوص دون تغيير النهج، يعني الإصرار على البقاء في مربع الأزمات الداخلية المتعددة التي تكشّفت بعد 20 شهرا من الحراك الشعبي.
فهل يستمع صاحب القرار إلى أصوات تختلف عن تلك المحيطة به، وغالبيتها تصر على ممارسة الإنكار وتراهن على فشل الربيع العربي، بل وتمعن في استهداف الحراك الشعبي وتقسيم الناس إلى موال ومعارض، كما تضرب عرض الحائط بالوحدة الوطنية، وتتحايل لإغلاق ملفات الفساد عنوة، وتدفيع غالبية الأردنيين ثمن إنقاذ الاقتصاد من ورطة ديون داخلية وخارجية لم يكن لهم دور فيها، ولم يفلحوا في قطف ثمار مشاريع كثيرة وعدوا بها؟
استبدال الطراونة وفريقه بـ"زيد أو عبيد" لن يحلق بالأردن إذا بقي فيه ثلاثة مراكز قوى تتصارع على الولاية العامة.
حل البرلمان، والتحضير لانتخابات تشريعية نهاية العام الحالي على أساس قانون الصوت الواحد، زائد مكياج القائمة الوطنية والإبقاء على تقسيمات الدوائر الانتخابية الضيقة، لن تغير في قواعد اللعبة السياسية البالية، ولن يشكلا بداية ملموسة لعشرات الوعود الملكية منذ بدء "الربيع الأردني".
عدم تغيير قانون الانتخاب يعني ولادة مجلس نيابي شبيه بمجلسي 2007 و2010؛ محافظ وتقليدي ناقص التيار الإسلامي، والقوى الأكثر تنظيما ونفوذا في الشارع، وفي غياب كتل جدّية قد تشكّل نواة لمشاريع أحزاب وطنية مستقبلية.
مجلس لا يمثل غالبية مكونات المجتمع، بخاصة سكان المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية المختلطة وخليط القوى السياسية والمجتمعية التي تتحرك في الشارع، سيكون عبئا على النظام السياسي. وغالبية النواب الجدد سيواصلون اللهاث وراء توفير فرص عمل، وتحسين خدمات المناطق والعائلات بالاعتماد على الحكومة والعصب السياسي الأمني. وسيظل الإخوان المسلمون وشباب الحراك في الشارع لمعارضة كل شاردة وواردة. وسيطعن الناس في شرعية تمثيل البرلمان عند أول أزمة داخلية تواجه البلاد.
وستهدر مخرجات البرلمان الجديد فرصة حقيقية لتشكيل أول حكومة مدعومة من الكتل القوية داخله.
برلمان ضعيف سيشكّل عبئا على أي خطّة تطبّقها أي حكومة مستقبلية تغامر في استكمال إصلاحات اقتصادية كانت حكومة د. الطراونة عرضتها على صندوق النقد الدولي، تمهيدا لنيل قرض الملياري دولار، على مدى الأشهر الثمانية عشر القادمة؛ وعمادها رفع أسعار الكهرباء والديزل والماء، وتغيير النظام الضريبي.
برلمان ضعيف وحكومة ضعيفة يعني استحالة سن تشريع "من أين لك هذا؟" لوقف الفساد والمفسدين مستقبلا، بعد أن تعذر فرض ذلك بأثر رجعي. وبدون قانون "من أين لك هذا؟"، ستبقى هيئة مكافحة الفساد تغمس خارج صحن الفساد، لأنها لا تستطيع الوصول إلى كشوفات الحسابات البنكية لأصحاب الملفات المشكوك في أمرها، ما يعني استمرار الانتقائية والكيدية في أسلوب التعامل مع قضايا الفساد، حسبما عشنا في الأشهر الأخيرة.
رحيل الحكومة والنواب قد يوفر "طوق نجاة" مطلوبا للنظام السياسي وللدولة الأردنية، بمكوناتها الرسمية والشعبية، في حال ترافق مع قرارات واضحة وجريئة؛ منها إعادة تعديل قانون الانتخاب على أساس الصوتين، وتوسيع الدوائر الانتخابية لإنهاء دور المال السياسي، وبالمحصلة تجويد المنتج البرلماني القادم. ذلك يعني بدء عملية إصلاح سياسي، جنبا إلى جنب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
الأمل معقود على الملك في أن يقلب الطاولة في الربع ساعة الأخير، وأن ينحاز لمطالب غالبية شعبه التي تريد العيش بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية، في دولة القانون والمؤسسات، القائمة على أسس المواطنة بغض النظر عن الجنس، والعرق، والدين، والأصل، والفصل.
التجارب من حولنا أثبتت أن المعالجة الأمنية، والاتكاء على العصا وتخويف الناس، وتكميم الأفواه والإعلام، ومحاولة تسييس السلطة القضائية والإصرار على أن الدنيا "قمرة وربيع"، كلها لن تجلب الأمن والاستقرار المنشودين.
آن الأوان لخوض تجربة جادة تحمي السلطة من نفسها، وتبني الأردن الجديد الذي نستحق، وتخرج البلاد والعباد من الفوضى المبرمجة غير الخلاقة التي تعصف بها منذ سنوات.
فلنسدل الستارة على مسرح العبث السياسي.