أخبار البلد -
تستحضر الذاكرة هذه الايام عبارة شهيرة اطلقها مسؤول اردني رفيع تسعينيات القرن الماضي، في محاولة لإقناع الاردنيين حينها بضرورة رفع الدعم عن المواد التموينية والمحروقات.
تلك هي عبارة "الدفع قبل الرفع" التي عني من ورائها توجيه الدعم النقدي الى مستحقيه قبل قيام الحكومة برفع الدعم الجزئي عن السلع الرئيسية.
من دون اللجوء الى العبارة نفسها، اطلت حكومة الخصاونة وبعدها حكومة الطراونة بنفس الديباجة تذم الدعم الشامل وتتغنى بالآليات الحصيفة لتعويض المستحقين من ابناء الطبقة الوسطى و الفقيرة.
الا ان ما شهده العقد الماضي و يشهده الاردن اليوم يثبت قطعا ان "الرفع" كان وما زال بدون أي ضرب من ضروب "الدفع".
فنتيجة خطوات الحكومة الهادفة الى تقليص الدعم المباشر وغير المباشر انخفض الانفاق العام نسبة الى الاقتصاد الكلي من 40 بالمئة في 2005 الى 33% في 2011، اي بواقع 7 بالمئة.
بالمقابل، لم يرتفع الانفاق على شبكة الامان الاجتماعي، بل انخفض منسوبا الى الناتج المحلي الاجمالي من 0.8 بالمئة في 2005 الى 0.5 بالمئة في 2010.
وبمعنى أن عائدات رفع الدعم والخصخصة لم تستخدم فعليا في تعزيز شبكة الامان الاجتماعي وجهود محاربة الفقر. هذا ناهيك عما تشير اليه الدراسات الدولية من ان جزءا لا يستهان به من مصاريف الرعاية الاجتماعية يذهب الى غير المستحقين من ابناء الطبقة الفقيرة.
ما يشهده الاردن اليوم لا يختلف ابدا عن المفارقات التاريخية الموضحة اعلاه. فالخطوات التي أقدمت عليها حكومة الطراونة لا تتجاوز كونها رفعا للدعم دون التقدم بأي ثمن اقتصادي للمستحقين او سياسي لعامة الاردنيين.
فبعد ان سئم الغالب الاعم حديث الحكومة المتكرر عن آلية "اعادة توزيع الدعم"، تقدم الحكومة على جملة من الخطوات التقشفية وخطوات رفع الدعم، قبل ان تحدد حتى ماهية ايصال الدعم الى مستحقيه، بالبطاقة الذكية ام عن طريق التعويض النقدي المباشر.
من جهة اخرى، تأبى الحكومة القيام بدفع اي ثمن سياسي لتجميل جراحتها الاقتصادية. فبعدما اقفلت جميع ملفات الفساد، تعتزم السلطة التشريعية قريبا تمرير قانون انتخاب لا يرقى الى الحد الادنى من تطلعات الحراك السياسي بمختلف اطيافه والوانه.
يبدو ان تذكير صانع القرار الاقتصادي مهم بان خط الفقر للاسرة المعيارية يقارب الـ 370 دينارا شهريا، وهو المستوى الذي يلامس معدل دخل الفرد الاردني العامل في القطاعين العام و الخاص. الامر الذي يعني ان تعويض المستحقين عن القرارات الحكومية الاخيرة لا يدخل في باب الترفيه عن الشعب الاردني، بل هو ضروري لتتمكن الطبقة المتوسطة من الحفاظ على نفسها والطبقة الفقيرة من إطعام ابنائها.
الاستمرار بسياسة "الرفع بدون دفع" يصنف تحت خانة الانتحار السياسي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
اما العجب العجاب فهو الوصفة السحرية التي يتبناها الطراونة وتقوم على رفع الاسعار وتقهقر الاصلاح وتجاوز ايصال الدعم الى المستحقين.