منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تفاقمت الصراعات الداخلية والانقسام بالمجتمع الإسرائيلي، وسط مخاوف متزايدة من اندلاع حرب أهلية، وتعزز ذلك مع فشل تحقيق الحكومة الإسرائيلية أهدافها من الحرب على غزة، واستعادة الأسرى الإسرائيليين الذين تبقى منهم نحو 100 أسير في قبضة المقاومة الفلسطينية.
وقبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت إسرائيل ممزقة بسبب الاحتجاجات على الإصلاحات القضائية التي اقترحتها الحكومة اليمينية بقيادة بنيامين نتنياهو، واعتبرها الكثيرون أنها دق في "مسمار الديمقراطية" و"انقلاب على الدولة"، ورغم التوحد الذي أبداه المجتمع الإسرائيلي عقب "طوفان الأقصى"، إلا أن العديد من الإسرائيليين استنتجوا أن نتنياهو وحكومته معنيون بإطالة القتال أكثر من الاهتمام بإنقاذ الأسرى.
وبعد مرور عام على هجوم7أكتوبر، لا تزال إسرائيل تتكبد خسائرها، وتفقد ميزانيتها الاقتصادية، وتشهد رحيلاً للنخب الليبرالية، فيما فشلت الحكومة الإسرائيلية في إعادة أي شعور بالوحدة بين مواطنيها، وتمسكت بدلاً من ذلك بسياساتها التي تثير الانقسام، وتقترب قواتها القتالية من الإرهاق في أطول معركة تخوضها،وحتى إذا لم تصدر المحاكم الدولية أوامر اعتقال بحق قادتها، فسوف تضطر إسرائيل إلى التعايش مع العواقب الأخلاقية والسمعة، في الشرق الأوسط وفي مختلف أنحاء العالم، للموت والدمار الذي أحدثته في غزة.
وتشير مجلة "الايكومونست" إلى انقسامات عميقة وغير مسبوقة في المجتمع الإسرائيلي رغم المظهر الخارجي للوحدة.
وتشمل هذه الانقسامات الصقور والحمائم، اليمين واليسار، المتدينين والعلمانيين، وتتمحور حول الدروس المستفادة من أحداث أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تباين بشأن "الانتصار" في غزة
بحسب استطلاع رأي نشرته هيئة البث الإسرائيلية، بعد مرور عام على الحرب على غزة، يعتقد 27% من الإسرائيليين، أن "بلادهم انتصرت في الحرب ضد حماس"، فيما يعتقد 35% "أنها خسرت"، أما البقية فلا يعرفون.
وتتغير الإجابة لدى تقسيم المشاركين في الاستطلاع بين ناخبي الائتلاف الحكومي مقابل ناخبي المعارضة.
ومن بين ناخبي الائتلاف يعتقد 47%، أن إسرائيل انتصرت في غزة، فيما يقول 48% من المعارضة (النصف تقريباً) إن إسرائيل خسرت الحرب.
ورغم أن حزب الليكود تعافى إلى حد ما في استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة (وذلك على حساب شركائه في الائتلاف من أقصى اليمين)، فإن ائتلاف نتنياهو ربما يخسر أغلبيته إذا أجريت الانتخابات الآن، ومن المفارقات أن هذا الاحتمال ساعده على البقاء في السلطة، لأن حلفاءه لا يريدون المخاطرة بوظائفهم من خلال التعجيل بإجراء الانتخابات.
تشاؤم بشأن مستقبل الدولة
إلى ذلك أظهر استطلاع نشره باحثون في الجامعة العبرية بالقدس، أن الإسرائيليين غير راضين عن حالة القتال بغزة، ويرون أن عودة الأسرى الإسرائيليين هو الهدف الأكثر أهمية في الحرب، وأنهم غير متفائلين بشأن مستقبل الدولة، حيث قال أكثر من 20% منهم بأنهم يريدون مغادرة البلاد.
وقال الباحث الرئيسي نمرود نير: "تكشف نتائجنا عن شعب يمر بمرحلة حرجة، حيث يوازن بين التهديدات الأمنية الخطيرة، في حين يواجه انقسامات داخلية عميقة".
وأوضح أن البيانات اليوم تسلط الضوء على "الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات استراتيجية بشأن الأمن وتجديد الجهود لتعزيز التماسك بالمجتمع الإسرائيلي".
حيث قال 62% من الإسرائيليين الذين شملهم الاستطلاع إنهم يعتقدون أن التهديد الأكبر لمستقبل الدولة يأتي من الانقسامات والتهديدات الداخلية، بينما قال 38% إن التهديدات الخارجية تشكل الخطر الأكبر على البلاد.
وعند سؤالهم عن إمكانية مغادرة إسرائيل والانتقال إلى الخارج، أبدى أكثر من 20% من المستطلعين اهتمامهم بذلك، فيما أظهر 11.3% أنهم يريدون ذلك ولكنهم لا يستطيعون، 13% قالوا إنهم غير متأكدين.
وعندما سُئِلَ في بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023 عن تأثير هجوم حماس والحرب في غزة على المجتمع الإسرائيلي، قال 77% إنهم يعتقدون أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الوحدة، ولكن بعد مرور عام واحد، لم يعتقد سوى 40.2% أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى التماسك، فيما قال 40.6% إن الحرب على غزة من شأنها أن تؤدي إلى زيادة الانقسام بالمجتمع الإسرائيلي.
وبحسب استطلاع الجامعة العبرية، فإن 52.6% من المستطلعين يعتقدون أن الهدف الأساسي للحرب على غزة هو إعادة المحتجزين الإسرائيليين، بينما قال 15.8% فقط أنه الإطاحة بحركة حماس، فيما قال 10% تدمير البنية التحتية لحركة حماس.
ويعتقد 75% من المستطلعين آراءهم أنه ينبغي التوصل إلى صفقة "تبادل أسرى" وإنهاء الحرب، في حين عارض ذلك 25%.
في هذا السياق، حذر البروفيسور الإسرائيلي آرونتشيخانوفر، لصحيفة "الغارديان" البريطانية، من أن عدم إعادة الأسرى المحتجزين من شأنهأنيؤدي إلى انهيار العقد الاجتماعي الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يؤدي إلى عواقب كارثية على إسرائيل بأكملها.
مؤسسة أمنية فقدت هيبتها بالمجتمع الإسرائيلي
بحسب تحليل على "فورين أفيرز"، فإن الهجوم الذي نفذته حركة حماس حطم ثقة الإسرائيليين بأنفسهم،وقلب المعتقدات الراسخة منذ فترة طويلة حول أمن إسرائيل وسياساتها ومعاييرها المجتمعية.
كما فقدت قيادة الجيش الإسرائيلي هيبتها بين عشية وضحاها تقريبا مع ظهور التفاصيل حول كيفية فشلها في منع الهجوم ثم وصولها متأخرة للغاية لإنقاذ المستوطنين في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة.
ورغم مزاعم الجيش الإسرائيلي بتفكيك القدرات العسكرية والحكومية لحركة حماس، وحديثه عن تفكيك قسم كبير من شبكة الأنفاق بغزة، إلا أن العديد من الإسرائيليين مازالوا يشعرون بالهزيمة، ويعتقدون بأنه فشل في تحقيق النصر، فلم يستسلم زعيم حركة حماس يحيى السنوار، ولا يزال نحو 100 محتجز إسرائيلي مفقودين في غزة.
كما أنه مازال سكان التجمعات الحدودية في الشمال والجنوب غير قادرين على العودة إلى منازلهم، وبدلاً من توحيد الإسرائيليين اليهود ضد عدو خارجي مشترك، لم يؤد القتال المتعدد الجبهات للجيش الإسرائيلي إلا إلى توسيع الفجوة الاجتماعية والسياسية القائمة في المجتمع الإسرائيلي لا سيما بين معارضي نتنياهو ومؤيديه، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
الحرب سرّعت من وتيرة هجرة الليبراليين
بحسب المجلة الأمريكية، رغم اشتراك نتنياهو مع العديد من حلفائه اليمينيين في القناعات الإيديولوجية، فقد نجح أيضاً في وضع نفسه في موقف سياسي أصبح فيه رهينة لهم؛ وهو الآن يسعى إلى احتجاز الرأي العام الإسرائيلي كرهينة.
فقد وضع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الإسرائيليين العلمانيين في مأزق، فخلال العقود الثلاثة التي أعقبت مؤتمر مدريد عام 1991 واتفاقات أوسلو عام 1993، أصبح هؤلاء الإسرائيليون ينظرون إلى بلادهم باعتبارها جزءاً فخوراً لا يتجزأ من الغرب، ويعتبرون أن الصراع مع الفلسطينيين مشكلة يمكن إدارتها والتعايش معها إلى أجل غير مسمى. وكان التعامل مع الصراع مع تنمية اقتصاد إسرائيل وتجنب التحركات الكبرى نحو الحرب أو السلام هو النهج الذي روج له نتنياهو بنجاح بعد عودته السياسية في عام 2009. وحتى عندما انقلب عليهم بمحاولته لإصلاح القضاء، فقد سهلت هذه الاستراتيجية تحالفاً ضمنياً بينه والنخب الليبرالية في إسرائيل.
وحتى لو لم يصوتوا له أبداً، فقد استمتعوا بالسخاء المالي الذي وفرته استراتيجيته وازدهروا في مدح إسرائيل باعتبارها "دولة غربية متقدمة" و"دولة الشركات الناشئة" في العالم، لكن الليبراليون الإسرائيليون الآن يواجهون الضغوط المشتركة المتمثلة في الرفض في الخارج من جانب الغرب التقدمي، وفي الداخل، الشيطنة والتهميش من جانب قاعدة نتنياهو.
ولقد لجأ الليبراليون الأكثر التزاماً وتضرراً إلى استراتيجيتين للبقاء، الأولى هي الهجرة، مؤقتاً على الأقل، أو التقدم بطلب للحصول على جوازات سفر أجنبية على أساس النسب.
وفقاً للمجلة الأمريكية، فإن هذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي كانت موجودة قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنها أصبحت شائعة بين الإسرائيليين الأكثر ثراء وتعليماً، وتزايدت حدتها مع استمرار الحرب على غزة وحكم نتنياهو.
من جانبه قال البروفيسور الإسرائيليآرون تشيخانوفر، إن "هجرة الأدمغة" المتسارعة للأطباء وغيرهم من المهنيين في المجتمع الإسرائيلي تعتبر علامة مقلقة على أن بعض النخبة في إسرائيل يشعرون بأنهم لم يعد لديهم مستقبل في إسرائيل.
وفي وقت سابق من هذا العام، حذر رئيس المجلس الاقتصادي الوطني السابق لنتنياهو، يوجين كاندل، والخبير رون تسور، من أن إسرائيل تواجه تهديداً وجودياً، موضحين أن "هناك احتمال كبير بأنها لن تكون قادرة على الوجود كدولة يهودية ذات سيادة في العقود المقبلة".
ومن بين التهديدات التي سلط المحذرون الضوء عليها ارتفاع معدلات الهجرة في المجتمع الإسرائيلي، وخاصة بين الأشخاص الذين بنوا قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل والمدارس والمستشفيات الحيوية لجذب النخبة العالمية.
وتقول صحيفة "الغارديان" البريطانية، إن التحولات الديموغرافية والسياسية في إسرائيل دفعت بعض الإسرائيليين العلمانيين والليبراليين إلى التساؤل حول مستقبلهم في دولة يهيمن عليها بشكل متزايد التقليديون المتدينون.
وأضافت أنه "رغم أن أهوال السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليست السبب الجذري وراء الهجرة في المجتمع الإسرائيلي، فإنها كانت سبباً في تسريعها".
الاحتجاجات ضد نتنياهو وسيلة لمعارضيه
أما الاستراتيجية الثانية التي اعتمدها الليبراليون تكمن في الاستمرار في الاحتجاجات ضد نتنياهو وائتلافه، والمطالبة بصفقة "تبادل أسرى" وإنهاء الحرب على غزة.
وفي أواخر أغسطس/آب الماضي، بلغت الأزمة ذروتها عندما قتل ستة أسرى إسرائيليين في نفق برفح جنوبي قطاع غزة، فخرج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع في أكبر احتجاجات مناهضة للحكومة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بسبب المماطلة وعدم إبرام صفقة أسرى.
تحذير من حرب أهلية مع تزايد الانقسام بالمجتمع الإسرائيلي
وفي مقال نشره ديفيد أوهانا على صحيفة "هارتس"، أشار في بدايته إلى قصيدة الشاعر الإسرائيلي حاييم غوري بعنوان "أنا حرب أهلية"، وصف فيها الشاعر الصراع الداخلي الذي يشبه الحروب الأهلية.
حيث أفاد الكاتب بأنالهوية اليهودية المشتركة بين الإسرائيليين تتعرض لتصدعات كبيرة في الفترة ما بين رأس السنة العبرية الماضية ورأسها الحالي.
وعبّر عن تخوّف العديد من الإسرائيليين من أن الاحتجاجات ضد الحكومة قد تؤدي في النهاية إلى تمرد مدني وربما حتى حرب أهلية، مشيرًا إلى أن هناك بالفعل مجموعتين من المواطنين تقفان على جانبي الصراع: مجموعة تسعى لتغيير النظام الديمقراطي من جذوره، ومجموعة تعارض ذلك.
كما أوضح أن هذا الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي قد يؤدي إلى تصعيد محتمل نحو حرب أهلية، وذكر أن هناك مراحل تسبق ذلك، مثل العصيان المدني الذي يعدّ نوعًا من الاحتجاج السلمي داخل حدود الديمقراطية، والتمرد المدني الذي قد يؤدي إلى استخدام العنف ضد الحكومة؛ حيث يستخدم بعض المستوطنين هذا النوع من التمرد في دعوتهم لتدمير المحكمة العليا.
واستشهد بحروب أهلية من التاريخ الحديث مثل الحرب الأهلية الأمريكية والحرب الأهلية الإسبانية، وأشار إلى أن الفاشية لا تظهر فجأة، بل تتطور عبر مراحل، مستشهدًا بما يحدث حاليًا في إسرائيل من تسييس الشرطة وتشكيل مليشيات في الضفة الغربية.
كما أشار الكاتب إلى اختراق المتظاهرين لقاعدة "سدي تيمان" العسكرية، وتطرق إلى الدعاية التي وصفها بـ"الغوبلزية" لمؤيدي الائتلاف الحكومي.
فيما أعرب عن قلقه من احتمال استغلال ائتلاف نتنياهو لفرض قوانين طوارئ وتأجيل الانتخابات المقبلة، الأمر الذي قد يسفر عنه احتجاجات عنيفة من المعسكر الليبرالي، حيث يرى البعض أن تل أبيب قد تعيد أخطاء الفاشية الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
ومن التحديات الخطيرة التي تواجهها إسرائيل بسبب الحرب على غزة، أنها بدأت تظهر وكأنها "دولة ثكنة"، أي تعتمد في هويتها على العسكرة والحروب، بحسب الكاتب.
واختتم أوهانا مقاله بأن حاييم غوري قد يكون قصد في سطوره الخالدة "هناك يطلق الصالحون النار على الصالحين الآخرين" أن يعبر عن هذا الصراع الوجودي بين رؤيتين متناقضتين لا يمكن التوفيق بينهما.
قضية الحريديم تؤجج الخلافات في المجتمع الإسرائيلي
أثارت الحرب على غزة والخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي، مجدداً مسألة تجنيد الحريديم الذين يرفضون ذلك، الأمر الذي ساهم في زيادة الفجوة بين المجتمع الإسرائيلي.
وعلى مدى عقود من الزمان، برر زعماء المتدينين المتطرفين هذا الإعفاء على أساس أن شبابهم يحتاجون إلى الحماية من إغراءات الحياة العلمانية التي قد يواجهونها في الثكنات.
لكن الحرب كشفت مؤخراً عن التفاوت الحاد بين الإسرائيليين المتدينين المتطرفين الذين لا يتعين عليهم الخدمة العسكرية، وبقية الشبان الإسرائيليين الذين أصبحوا مدعوين "للموت من أجل وطنهم".